فوضى الأسعار.. ما العمل؟
وبعدما وعدت الحكومة المواطنين بقرب انفراج الأزمة، كان قرارها الأول بعد تحرير سعر الصرف هو رفع أسعار البنزين والسولار وأنابيب الغاز. وجاءت هذه الزيادة مع ارتفاع الطلب على السلع الغذائية فى شهر رمضان وكثرة الالتزامات الاجتماعية. ثم انهالت الإعلانات التلفزيونية على المتفرجين لتحرمهم من أى لحظة صفاء أو راحة بال.
لا عجب إذن أن يكون انفلات الأسعار هو الشغل الشاغل لكل بيت، ومقارنات أسعار اليوم بالأمس وبالماضى القريب خاتمة كل حوار.
المتابع لتعامل الحكومة مع هذا الوضع المتوتر سيجد أنه انحصر فى ردود أفعال ثلاثة:
رد الفعل الأول كان التصريحات الرسمية عن قرب تحسن الوضع الاقتصادى وانفراج الأزمة وحتمية انخفاض الأسعار قريبًا قياسًا على انخفاض سعر الدولار. وللأسف أن بعض هذه التصريحات لم يكن موفقاً، لأنه رفع سقف التوقعات ثم لم يجد الناس له صدى فى الأسواق بل العكس، حيث ظلت الأسعار ترتفع دون هوادة. وقد حذرت، وحذر كثيرون معى، من المبالغة فى الاحتفال بنهاية الأزمة لأن ما حدث هو توفير سيولة عن طريق صفقة رأس الحكمة واقتراض حوالى عشرين مليار دولار من صندوق النقد والبنك الدولى والاتحاد الأوروبى، وهذا أنقذنا من ورطة بالغة الحرج، ولكنه لم يحل الأزمة المستمرة معنا.
رد الفعل الثانى كان العودة- وبقوة- إلى الحديث عن جشع التجار واحتكار التوزيع والسيطرة على الأسواق. والحقيقة أننى لست بصدد الدفاع عن التجار، بل أرى بعينى كل يوم مظاهر للاستغلال والاحتكار تثير الغضب بالفعل. ولكن ما لا أتفق فيه مع كلام الحكومة هو أن الدولة بيدها القانون واللوائح والرقابة والسياسة النقدية والجمارك والرقابة على الأسواق، فلا داعى لانشغالها بالأخلاقيات وبسلوك المواطنين، بل عليها ضبط الفوضى وعقاب مَن يخالف القانون.
أما رد الفعل الثالث فهو تدبير التمويل اللازم من أجل طرح كميات من السلع والمواد الغذائية كى تتوقف الأسعار عن الارتفاع، وربما تنخفض قليلًا. ولأننى لست من المُغالين أو المتطرفين فى رفض كل تدخل للحكومة- بل أراه مطلوبًا وضروريًّا فى أحيان كثيرة، وإن كان بحاجة إلى التنظيم- فإننى لا أرى مانعًا من مثل هذا التدخل، ولكن بشرط أن يكون تدخلًا مؤقتًا ومشروطًا بظروف خاصة لأن استمراره دون ضوابط أو سياسة واضحة سوف يؤدى فى النهاية إلى مزيد من التشوه فى النظام الاقتصادى ومزيد من إضعاف القطاع الخاص بما يحد من المنافسة على المدى الطويل ويقوى من شوكة المحتكرين.
■ ■ ■
إذن التفاؤل الزائد كان فى غير محله، وأضر أكثر مما أفاد، والحديث عن جشع التجار قد يكون صحيحًا، ولكنه لا يليق بالحكومة صاحبة السيادة، وأما التدخل بطرح مواد غذائية فمفيد، ومطلوب فى ظل الأزمة الراهنة، ولكن بشرط أن يكون مؤقتًا ومحسوبًا، بحيث لا يضر بآليات السوق التنافسية.
ولكن هل هناك مدخل آخر للتعامل مع أزمة الغلاء؟.
نعم، هناك المدخل الأساسى، بل الوحيد، الذى لا يبدو أنه يأخذ الاهتمام الكافى، ولا يحتل الأولوية فى السياسات الحكومية، مدخل زيادة الاستثمار والإنتاج والارتفاع بكفاءة التوزيع وفتح المجال للمنافسة وإزالة القيود والعوائق وتخفيض الرسوم وتحفيز المصانع المتوقفة وتفعيل برنامج تخارج الدولة من النشاط الاقتصادى.
كلام متكرر، أليس كذلك؟.
ربما، ولكن كما أن الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتصدير هى السبيل الوحيد للخروج من أزمات سوق الصرف والديون والفقر والاعتماد على الغير، كذلك فهى الطريق الوحيد للارتفاع بمستوى معيشة المواطنين وإعادة التوازن بين الدخول والأسعار والتخلص من كابوس الغلاء.
قد نكون اليوم بحاجة إلى إجراءات عاجلة لمواجهة انفلات الأسعار، ولكن ما نحتاجه أكثر هو سياسة اقتصادية واضحة المعالم، لا تعتمد على بيع الأصول والاقتراض، بل تستغل الفرصة التى أُتيحت لنا مؤخرًا من أجل إطلاق طاقات الإنتاج لأن المجتمع الذى لا ينتج لن يتحسن حاله مهما باع ومهما اقترض.