ثلاث طرق للسعادة (2)
فى البحث عن السعادة عبر سطور رواية «ثلاث طرق للسعادة» للكاتبة هويدا صالح، ليس بوسعنا أن نغفل مفتتح الرواية الذى ربما لخص أسباب السعادة حين قال تحت عنوان «ما قبل البداية» بطريقة عميقة: «فى هذا العالم السيئ الرهانات من حولنا مخادعة.. ومع ذلك هناك أشياء كثيرة يمكننا فعلها أو التواصل معها: الحب الذى يأتى بهدوء من القلب. تلك الأفكار الصحيحة التى يجب أن تعيش معنا، ولا تغادر أبداً، والعيون الدافئة التى لا يوجد فيها أكاذيب».
كما أن التعريف بالرواية، أو كلمة غلافها، تفتح قوس البحث عن السعادة فى فجاج عديدة، وتعطى كل فرد الحق فى أن يراها كيفما يشاء، منتمية إلى الجسد أو الروح، إلى المحسوس أو اللامحسوس، يجدها المرء فى الظهور أو فى التوارى، وفى البوح أو الكتمان، فهى كما يقول غلاف الرواية «حالة عاطفية تتميز بمشاعر الفرح والرضا والقبول بما لديك، والكثير من المشاعر الإيجابية تجاه العالم. ومع ذلك يظل المعنى الدقيق والمحدد لها، وطرق الوصول إليها، يختلف من شخص لآخر، حسب تكوينه المعرفى والثقافى».
لكن شخصيات الرواية تبدو متجانسة إلى حد واضح، فأغلبهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها، وحتى إن تنوعت هوياتهم الدينية بين مسلمين ومسيحيين ويهود، فهم يتوزعون على اتجاهين، إما متطرف أو متزمت، وإما معتدل أو متسامح، وجميعهم يتحدثون فى وعى عميق بلسان بليغ، ويجرى الحوار بينهم، فى الغالب الأعم، وكأنهم خارجون من المسرح الشكسبيرى، ولا يخلو أى شخص فيهم من رؤية فلسفية بدرجة ما، وهو أمر لا غرابة فيه إن كنا بصدد القاعدة التى تقول إن لكل امرئ ثقافته ووجهة نظره حيال نفسه وغيره والحياة كلها.
أعطت الكاتبة فصول روايتها عناوين دالة، غارقة فى المجاز، كل منها يبدو أنه تلخيص لوحدة سردية مستقلة بذاتها، لكنها متواشجة مع ما قبلها وما بعدها بشروط الحكى والحبكة وتدفق السرد وصناعة المسارات الجاذبة.
هذه العناوين هى: «امرأة قادرة على إثارة لعاب الجائعين» و«حارسة الأزهار» و«مراقبة الحياة» و«حارسة الحب» و«مارية النبيذ» و«هروب» و«صديقة الظلام» و«الغابات التى تعمل فى صمت» و«وسيم شلة الغجر» و«مسار البهجة ومسار الحزن» و«امرأة تحمل نهراً ميتاً داخلها» و«ليفى.. قارئ الأرواح» و«رحيل» و«رفة جناح صغير وراديو ترانزستور» و«روحها العميقة» و«أوليفر.. جعبة الحزن النبيل» و«مواثيق لا تقبل التراجع» و«الجسور إلى الروح البعيدة» و«كيف يمكن لأرواحنا أن تستريح؟».
وربما صياغة الفصل الأخير فى سؤال، قد يُشرك القارئ فى البحث عن وسائل تحقيق السعادة، سواء بالأسلوب الذى اختاره أبطال الرواية أو بطريقة أخرى.
ويمكن أن تكون الإجابة فى اختيار «حسناء» للطريقة الثالثة وهى أن تربطها صداقة بعادل مراد، باعتبار الصداقة أدوم وأكثر استقراراً من ولهٍ وتتيم وعشق قد تولد معه الأثرة والوجع ولوعة الفراق، وربما الندم.
لكن الرواية لا تغلق نفسها على دواخل النفوس المعذبة، الباحثة عن السعادة، لتحفر فيها عن المعانى الكامنة، والرغبات المكبوتة، بل تنفتح على السياق الاجتماعى السياسى الذى تتقلب فيه هذه النفوس، فيؤثر فيها، شاءت أم أبت، وهنا تستعين الكاتبة بذائقتها الأكاديمية، لتطلق معرفة متنوعة فى ثنايا السرد، ما يتعلق بالسياق منها هو رصد التفاوت الاجتماعى، وتآكل الطبقة الوسطى، ورحلة صعود والد «دعاء» الذى احترف التجارة، بينما يظهر الفقراء فى هامش السرد، لا يزيدون فى النص عن أوليفر وقت أن كان معدماً يبحث عن عمل، والفقيرات المريضات اللاتى تعالجهن «حسناء»، لكن لا يظهر لهن صوت، سواء فى التعبير عن أوجاعهن، أو الامتنان للطبيبة التى عودتهن على العطاء بلا حدود.
وفى السياق أيضاً يتراءى لنا زمنان، الأول فى العهد الملكى الذى عاش فيه الأجداد والآباء، والثانى هو تسعينات القرن العشرين على الأرجح، دون أن تستغرق الكاتبة فى مقارنة ما بين الزمنين، فهى ليست معنية بهذا، إنما تريد فقط أن تؤصل الجذور التى انحدرت منها شخصيات روايتها، وتبين طرائق تربيتهم، والعناصر التى شكلت شخصياتهم.
ولا تحل الرواية، متعددة الضمائر والأصوات، معضلة تأثير السياق على النفوس، إلا بالهروب منه أساساً برفقة الخمر، حيث ينسى أغلب أبطال الرواية، فى ذلك البار الكائن فى وسط القاهرة، ما تثيره هوياتهم الدينية المختلفة، ومهنهم المتعددة، ومسارات العيش المتنوعة التى يحيونها، كل ما يكابدونه، لتكون السعادة أحياناً فى إغفال كل ما ترتبه هذه الخلفيات من إحن وصراعات وعذابات.
ولأن تأثير «السُكر» مؤقت كان على هؤلاء الأبطال أن يحفروا فى أرواحهم، ويوقظوا طاقاتهم على التفكير المتأنى، كى يتخذوا القرارات التى تناسب طريق الهروب من التعاسة، حتى ولو بقدر ضئيل، أو بشكل مؤقت، فالغرق فى الكآبة، لا يأتى بخير فى كل الأحوال.