مستقبل مصر بين النصفين
لأنى أودّ التعلم طوال الوقت، ولأنى أحلل الماضى والحاضر لأرى المستقبل، فإننى أشارككم فلسفة النصف فى حكم البلاد.
كل نظام حاكم له مميزات وعيوب نراها ونعرفها، فالديكتاتورية فى الحكم بالرغم من عدم تأييدنا لها، لها فوائد أحيانًا. والديمقراطية، بالرغم من دعوتنا إليها، لها مضار أحيانًا. الديكتاتورية قد تأخذ البلاد عبر مضيق التخلف بطريق مختصر، والديمقراطية قد تجعل أغلبية الجهل تختار أسوأ ما فى المجتمع ولا تتيح اتخاذ إجراءات هامة قد تتوافق مع أغلبية اللحظة ولكنها لا تخدم مستقبل البلاد.
إننا نرى فى المجتمع الغربى الآن، وبالذات فى النموذج الأمريكى، أن سلطة المال، والنفوذ الصهيونى، والمؤسسات العسكرية والمخابراتية والمصالح المؤسسية للشركات الكبرى يتحكمون بشكل كبير فى اختيارات الشعب الأمريكى، ويصل الأمر إلى اختيارات بين السيئ والأسوأ وليس الأفضل للشعب الأمريكى.
أعود لنموذج الديكتاتورية، ولنأخذ نموذج مهاتير محمد فى ماليزيا، ولى كوان فو فى سنغافورة، وحكام الصين فى نهضتها الاقتصادية الجبارة، وكمال أتاتورك فى تركيا، وأتجرأ وأقول نموذج أودلف هتلر فى ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى قبل جنون الحرب العالمية الثانية.
ولو أخذنا نماذج من منطقتنا، فعبدالناصر كان ديكتاتورًا، وهو بكل أخطائه أعطى أملًا للشعب، وكان يستطيع نقل البلاد نقلة حضارية، ولكن المجد الشخصى كان أولويته، والحبيب بورقيبة كان ديكتاتورًا ولكنه نقل بلاده نقلة حضارية كبيرة أيضًا فى حقوق المرأة والتعليم وغيرهما.
سآخذ سنغافورة مثلًا، بلد ظهر فى الوجود كبلد مستقل عام ١٩٦٥ فقط، فهل كانت تستطيع أن تصل إلى ما هى عليه الآن بدون مؤسسها لى كوان فو. الذى قال: نهضة الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت به عندما تسلمت الحُكم فى دولة فقيرة جدًا، اهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم، فبنيت المدارس والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج للتعلم، ومن ثم الاستفادة من دراساتهم لتطوير الداخل السنغافورى.
استمرت سنغافورة فى تحقيق نموها الاقتصادى المتميز؛ فمنذ بداية عام ١٩٨٠ استطاعت أن تخفض معدل البطالة فى البلاد إلى ٣٪، وارتفع الناتج المحلى الإجمالى من ٧ مليارات دولار فى عام ١٩٦٥ إلى ٨٧ مليار دولار عام ٢٠٠٠، وبلغ عام ٢٠٢٣، ٤٠٠ مليار دولار، وارتفع دخل الفرد من ٤٣٥ دولارًا سنويًا إلى ٣٠ ألف دولار سنويًا فى نفس الفترة الزمنية، وبلغ اليوم ٨٠ ألف دولار.
هل كان للصين، التى يتعدى دخلها القومى اليوم دخل الولايات المتحدة، أن تنمو وتستثمر فى إطار مساواة شكلية تجعل كل البلد فقيرة وتقف أمام قرارات اتخذها الحزب الحاكم ما كان يستطيع أن يأخذها فى مناخ ديمقراطى غربى.
بالقطع لا...
أنا طبعًا لا أدعو للديكتاتورية وأبعد ما أكون عن ذلك، ولكنى أرصد الأحداث.
هناك فوائد للديكتاتورية أحيانًا، خصوصًا فى الدول التى يعم فيها الفساد والفقر والعشوائيات والتخلف العلمى، لأنها ببساطة تمثل الأغلبية التى ستصوت ضد التغيير وستريد بقاء الأوضاع على ما هى عليه رغم شكواها منها لأنها لا تملك الرؤية للمستقبل؟.. نعم.
هناك مضار للديمقراطية، خاصة عندما تغيب سلطة القانون ويعم الجدل.
فبدون تطبيق حازم للقانون، لا أرى مجلسًا لعمارة أو حى سكنى أو مجلس محلى أو مجلس قسم فى جامعة قادرًا على أن يأخذ قرارًا ويفرضه على الآخرين، بل انقسامًا، وفى الأرجح إلا قليلًا، الكل يتأرجح فى النصف.
لقد رأينا زيادة فى عدد العاملين العاطلين بالدولة بعد ثورة يناير تحت ضغط الشارع ضد مصالح الأمة، ونفاقًا أو خوفًا من أقليات تثور أو تهدد باسم الديمقراطية.
لقد انحزنا إلى بقاء القطاع العام الخاسر بالمليارات، ورفضنا الاستثمار الداخلى والخارجى وخلق فرص العمل تحت شعار حماية الفقراء، ورقصنا فى النصف باسم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التى تتحقق بتوفير حقوق المواطنين وليس بمنافسة الدولة للقطاع الخاص ونعيد الكرة بأسماء جديدة.
الحكومة تقول نحن نشجع القطاع الخاص، وكل من يعمل فى القطاع الخاص يعانى من تعطيل أعماله بسبب الروتين.
إننا لم نقدر ولم نستطع تغيير منظومة التعليم لصالح مستقبلنا أو نمنع فساد إدارتها بدون حجج سوى صعوبة المساس بمصالح البعض أو الخوف من مواجهة المرتعشين ممن يهابون التغيير رغم شكواهم من الأمر الواقع. نحن فى النصف، نقول ولا ننفذ، ننادى بأولوية التعليم ونعوق تطويره.
إننا اخترنا نصف الديمقراطية التى تجعل اتخاذ أى قرار مستحيلًا فى محاولة إرضاء الجميع، فحصلنا على غضب الكل..
لقد ارتضينا نصف الديمقراطية ونصف الديكتاتورية فلم يصبنا لا خير هذه ولا ميزة تلك، وكما قال جبران خليل جبران ببعض التصرف منى: «لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف فى منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل.
إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت فعبّر عن رفضك.
لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريبًا.
النصف هو أن تصل وألا تصل، أن تعمل وألا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت.
نصف طريق لن يوصلك إلى أى مكان، ونصف فكرة لن تعطى لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان.
أنت إنسان وُجدت كى تعيش الحياة، وليس كى تعيش نصف حياة».
فهل نحن مستعدون للاختيار، وهل نحن مستعدون للحسم السياسى الذى يخدم الاقتصاد، أم نريد نصف انفتاح ونصف انغلاق؟.. هل نريد قطاعًا خاصًا قويًا خالقًا لفرص العمل، أم نريد قطاعًا اقتصاديًا تتحكم فيه الحكومة أم النصف من ذلك والنصف من هذا؟!.
هل نريد التخلص من الفقر وأن نكون أغنياء، أم نريد المساواة فى الفقر لأننا فى النصف؟
هل نريد مجتمعًا مدنيًا قويًا وجمعيات أهلية مستدامة، تساند وتنمو أم نتفذلك فى قوانين تقتله فى مهده؟
نحن فى النصف نريد ولا نريد..
هل نحن دولة مدنية أم دولة دينية؟ كل ما يحدث أمامى يقول إننا فى النصف، فلا نحن دولة دينية بمعناها الكامل، ولا نحن دولة مدنية بمعناها الكامل، نحن فى النصف نحصل على تحكم الدين فى المجتمع بدون إعلان ذلك وننادى بالمواطنة، وأفعالنا فيها تمييز سخيف بين المواطنين المختلفين فى الدين ولا نقبل من يتجرأ أن يقول غير ذلك. نحن فى النصف.
هل نريد سياحة فعلًا أم نريد سُياحًا نختارهم بمزاجنا لأننا نريدهم ولا نريدهم فى نفس الوقت..
البلد الذى يملك كنوز الأرض ويَدرس تاريخه كل أطفال العالم، لا يترك نفسه فى قبضة المتسولين والمتحكمين فى أماكنه السياحية، ولا تكون المعاملة فى مطاراته ومخارج جماركه بهذا التعقيد والتعالى، بل يختار ولا يقف فى النصف.
النصف هو الرخاوة والسيولة وعدم السير فى اتجاه، وهو يدمر كل شىء مهما حسنت النية ومهما كانت الوطنية.
النصف لا ينفع البلاد الآن.