رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

مصريون مع حماية التراث

قسم : مقالات
الجمعة, 16 يونيو 2023 11:22

فى مصر الآن، وبين أوساط عديدة فى المجتمع، حالة من التذمر والقلق من امتداد يد التطوير والتعمير لما يعتبرونه من الملامح التراثية لمدينة القاهرة ومدن مصر الأخرى العريقة.

مقابر قديمة عمرها مئات السنين، ومساكن بُنيت فى عهود مملوكية وعثمانية وخديوية، ومساحات مفتوحة تمنح الناس متنفسًا، وأشجار عمرها مئات السنوات، وعوامات نيلية خلدها نجيب محفوظ فى رواياته، ومحال صغيرة ربما ليست ذات قيمة معمارية كبيرة، ولكن تاريخها الإنسانى والمهنى لا يقل أهمية عن المعمار.

هذه الحالة بدأت بجهود فردية ونداءات واستغاثات متفرقة، ولكنها تحولت مع الوقت والتجاهل من المسؤولين إلى حركة غير منظمة أسميها «مصريون مع حماية التراث».

دعونى أوضح أننى لا أفترض أن كل إزالة لمبنى أو شجرة بالضرورة سيئة، فهناك قدر أكيد من التطوير والتحديث، الذى لابد أن يلحق بكل مدينة. ولا أفترض أن كل قديم يستحق البقاء، بل بعضه قبيح أو آيل للسقوط أو مانع من تطوير ضرورى. ولا أفترض أيضًا أن الأماكن التراثية فى أفضل حالاتها، بل بعضها تحول مع الوقت والإهمال وقلة الموارد إلى خرابات ومقالب للقمامة وتجمعات لتعاطى الممنوعات.

التطوير والتحديث مطلوبان، والتجديد سمة الحياة، والتمسك بالقديم ينبغى ألا يكون عقيدة جامدة تغفل غيرها من الاحتياجات. ولكن كل هذا لا يبرر حالة الاجتياح التى تشهدها بعض الأماكن والمعالم التراثية تحت عنوان التطوير والحداثة، والشعور السائد بين الناس أن ما بدأ ربما تطوير وتحديث تحول إلى تهديد مستمر لطبيعة المدن المصرية ولتاريخها وخصوصيتها الحضارية ومصدر تميزها.

طبيعى أن تكون هناك وجهات نظر مختلفة وتناقضات وصراعات بين التطوير المعمارى والحفاظ على التراث. وكل دول العالم تتعامل مع هذه التناقضات والرؤى المختلفة بآليات تشاركية لحسم الخلافات، وإجراءات معروفة مسبقًا.

وشفافية فيما يجرى التخطيط له، ومساحة للتشاور مع سكان المناطق المعرضة للتطوير، وفرصة لهم لتقديم بدائل ربما تكون أفضل مما هو معروض، ونظام واضح للتظلم، ثم رقابة قضائية يُحتكم إليها كى تكون كلمتها نهائية وعادلة وملزمة للجميع.

وما سبق ليس متاحًا لدينا، أو ليس متاحًا بما يحقق الأهداف المرجوة. صحيح أن هناك أجهزة تنسيق حضارى، وفيها خبرات وكفاءات رفيعة المستوى، ولجان على كل المستويات، واجتماعات ومحاضر، ومجال للجوء إلى القضاء.

ولكن المحصلة النهائية ليست تشاركية ولا شفافة ولا قابلة للتعديل أو التغيير. بل النقاش يجرى، والاعتراضات تتصاعد على صفحات التواصل الاجتماعى، وبعض أعضاء البرلمان يبذلون كل طاقتهم، ولكن لا شىء يأتى بنتائج ملموسة، وكأن قرارات الإزالة والهدم قدَرية لا أحد يملك حيالها شيئًا.

من جهة أخرى، فإن هناك شعورًا عامًّا بأن النموذج المتبع للتحديث والتطوير يسعى لمحاكاة النمط السائد فى بلدان الخليج العربى الشقيقة، مع أنه قد لا يكون النموذج الأنسب لنا. نجاح مدن الخليج فى أن تصبح مريحة لسكانها وجاذبة للوافدين من كل أنحاء العالم كان بسبب إدراكها للمزايا المتاحة لديها والقيود المفروضة عليها.

موارد مالية هائلة من الثروة النفطية، ومساحات خالية من التراث القديم، وعدد محدود من المواطنين، ورغبة فى التنمية السريعة. أما فى حالتنا فالوضع مقلوب. ليست لدينا الموارد المالية الهائلة التى تُمكِّننا من اتباع هذا النموذج، ولا عدد السكان الملائم له.

والأدهى من ذلك أننا- على الجانب الآخر- فى غمرة محاكاة الآخرين فيما لا نملكه، لا نبدو مُقدِّرين ولا مُثمِّنين لقيمة ما نملكه بالفعل، والذى يتمنى الآخرون لو توافر لديهم. هذه العمارات القديمة، والحدائق العريقة، والمقابر، والمعالم التقليدية والتراثية هى التى تجعل القاهرة والإسكندرية والمنصورة وأسيوط والإسماعيلية وغيرها من المدن القديمة محط أنظار الزائرين، بل غيرتهم.

لكن بدلًا من الحفاظ عليها وإبراز قيمتها واستغلالها لجذب المزيد من السياح والاستثمار والنشاط التجارى ولاستعادة قوة مصر الناعمة التى نشكو من ضياعها، إذا بنا نعتبرها أعباء وعوائق تقف فى طريق التقدم والتطوير.

مرة أخرى، فإن التطوير مطلوب، والتغيير سُنة الحياة، والاحتياجات التنموية لا يمكن إغفالها، والقديم ليس كله مما يستحق الحماية. ولكن الاندفاع نحو الهدم والإزالة دون الاستماع للرأى العام ليس مطلوبًا، بل يلزم الخروج من حالة التوتر والاحتقان إلى حالة من التفاهم والتشارك والشفافية فى اتخاذ القرار، وهى ليست صعبة التحقيق ولا مكلفة ولا مهددة للتنمية والتطوير.

دعونا نستمع إلى «مصريون مع حماية التراث» لأنهم ليسوا أعداء ولا أصحاب مصالح مغرضة، بل وطنيون مخلصون يسعون للحفاظ على تراث لو ضاع فلن يمكن تكراره ولا تقليده.

 

Rochen Web Hosting