رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

إسقاط المؤسسات

قسم : مقالات
الأربعاء, 28 يونيو 2023 11:23

وارد أن يشهد العديد من المظاهرات عمليات إحراق لمواصلات عامة أو بعض المحال ونهب بعضها أو تحطيم واجهاتها، حدث ذلك كثيرًا في مصر وغيرها من بلاد العالم، لا فارق في ذلك بين عالم أول أو ثالث ولا بين القاهرة والإسكندرية أو نيويورك وباريس، قريب منّا جدًّا ما قامت به مجموعات السترات الصفراء في محال شارع الشانزليزيه بمدينة النور من إحراق ونهب، حيث تجاوزت الخسائر يومها مليار يورو، يمكن أن تحدث مثل هذه العمليات مع موجة غضب عفوية للمواطنين أو مجموعات بعينها، كما وقع من الأمريكيين السود في أكثر من مدينة؛ لكن من غير الوارد ما جرى في مصر يوم ٢٨ يناير ٢٠١١ وما بعد ذلك اليوم، حيث جرى تدمير عدد من المنشآت، ليس بحرائق عادية، كإلقاء كيروسين أو بنزين أو حتى زجاجات بدائية الصنع على غرار زجاجات رفاعة في رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، بل استُعملت أسلحة ثقيلة ومتفجرات شديدة الانفجار، قد لا تُتاح لجيوش عادية ولا لجهاز الشرطة، كما حدث في المبنى الذي كان به مقر الحزب الوطنى، والذى ضم محاضر اجتماعات وقرارات قيادات الحزب ولجانه المختلفة بخصوص الكثير من القضايا والموضوعات. كراهية الحزب ورفض سياساته وممارساته شىء وإحراق وثائقه وملفاته شىء آخر.

المبنى كان يضم أيضًا مقر المجالس القومية المتخصصة، الذي احتوى على كل الدراسات التي قام بها أعضاء لجان المجلس في مختلف التخصصات، منذ أن تشكل بقرار من الرئيس السادات بعد حرب أكتوبر مباشرة وكذلك مقر المجلس الأعلى للصحافة، وكانت به مكتبة نادرة بكل الصحف والمجلات المصرية تقريبًا، سواء صدرت في العاصمة أو خارجها، بعض هذه المطبوعات لا توجد نسخ أخرى منها في أي مكتبة أخرى، وكان المجلس يضم العديد من الوثائق المهمة المتعلقة بالمؤسسات الصحفية، خاصة القومية منها، ناهيك عن ملفات وثائقية حول كل الصحفيين والصحفيات.

 

 

كل هذا التراث احترق في دقائق، فقدنا بذلك مصدرًا مهمًّا للمعلومات وذاكرة المؤسسات الصحفية بكل رموزها.

 

 

وإلى جوار ذلك المبنى، كان ومازال مقر المتحف المصرى، وجرَت عدة محاولات لاقتحامه وسرقته، هناك بالفعل قطع سُرقت منه، ولابد أن نذكر متحف الزعيم الوطنى مصطفى كامل الذي نُهب بالكامل وكانت به كذلك مقتنيات الزعيم محمد فريد، جرى الأمر نفسه بالنسبة لمواقع في نفس الأهمية بالمحافظات، لم تكن القضية تتلخص في الانتقام من وزارة الداخلية بإحراق مقارها واقتحام السجون، كما جرى تصوير الأمر من بعض المتحمسين وبعض المعترضين على سياسات «الداخلية»، خاصة فترة وجود اللواء حبيب العادلى على رأسها.

 

 

كانت عملية اقتحام السجون تتجاوز قدرات وإمكانات الشباب، من حيث قوة تسليح المهاجمين والمعلومات التي لديهم حول مواقع ومداخل ومخارج كل سجن، فضلًا عن المعلومات حول قائد كل سجن وعدد أفراد قوات الأمن به.

 

 

ما حدث قريب الشبه بما جرى في بغداد، عقب اختفاء صدام حسين إثر الاجتياح الأمريكى سنة ٢٠٠٣، حيث جرى تدمير ونهب المتحف العراقى بكل ما يضمه من روائع أثرية وتحف وحيدة من نوعها في العالم، كما جرى نهب المكتبة الوطنية وغيرها من مؤسسات. ولا تنسى أنه تم حل وزارة الداخلية وتسريح كل مَن فيها، وحدث الأمر نفسه مع الجيش العراقى. هناك فوارق كبيرة بين ما جرى هنا وهناك، لكن منطق- أو ذهنية- السلوك واحد، إسقاط وتدمير المؤسسات، بالإطاحة بكوادرها وإحراق ذاكرتها.

 

 

بعد فبراير ٢٠١١، امتدت الرغبة في تدمير المؤسسات إلى محاولة اقتحام وزارة الدفاع، وكان على رأس هذه المحاولة عدد من رموز الإرهاب منذ الثمانينيات، ثم كانت محاولة حصار دار القضاء العالى، مع التلويح بين حين وآخر بضرورة تكرار ما جرى مع «الداخلية» في ٢٨ يناير ٢٠١١.

 

 

هذه كلها كانت محاولات للاعتداء على مؤسسات الدولة من الخارج، أقصد خارج المؤسسات ذاتها، ثم حدث تطور آخر، وهو تدمير المؤسسات من الداخل، عبر ما أُطلق عليه «المطالب الفئوية»، حيث تهب الوقفات والاحتجاجات داخل كل مؤسسة بمطالب رئيسة، يدور معظمها حول طرد كل قيادات المؤسسة ومحاكمتهم بدعوى أنهم «حرامية»، رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات فوجئ باقتحام مكتبه وتوجيه إهانات بالغة إليه وصلت إلى حد الاعتداء باليد، فأُصيب بأزمة أودت به، ولم يكن قد أمضى شهورًا في موقعه، مضى الرجل إلى ربه في الزحام، فلم يرْثَه أحد ولا تساءل أحد عما وقع له ولا سُئل أحد عنه، تفرق دمه بين المقتحمين!!.

 

 

اتضح فيما بعد أن بعض البيروقراطيين والمشتاقين أجّجوا هذه الاحتجاجات وإزاحة القيادات ليحتلوا هم المقاعد.

 

 

إلى جوار ذلك المطالبة والضغوط على زيادة الرواتب والحوافز المادية أضعافًا مضاعفة، رغم علم الجميع أنه لا تتوافر إمكانيات مادية لذلك لدى كل مؤسسة ولا لدى الحكومة، ثم فتح أبواب التعيينات على مصراعيها، بغض النظر عن مدى كفاءة مَن يتم تعيينهم ولا درجة احتياج موقع العمل، وعند التعيين ضرورة إسقاط الشروط القانونية المعتادة مثل استخراج صحيفة الأحوال الجنائية، وترتبت على ذلك بعض الكوارث في عدة مواقع ومؤسسات. تبين فيما بعد أن هناك مَن عُينوا بمؤهلات وشهادات «مزورة»، وهناك مَن عُينوا رغم إدانتهم بأحكام جنائية كالنشل وغيره. كان الهاجس المسيطر تسكين الحناجر المهددة وليس التدقيق ولا احترام القوانين، المناخ العام وقتها أدان القوانين والقائمين عليها، محصلة هذا كله إضعاف المؤسسات القوية وإسقاط الضعيفة، لم تكن هناك زيادة في الإنتاج، بل كان الإنتاج في تراجع شديد، بلغ حد الانهيار، ولم تكن هناك زيادة في الدخل القومى تدفع إلى ضرورة زيادة العوائد على المواطنين، كانت الأمور على العكس، دخل السياحة وعوائدها هبطت إلى الصفر، في أجواء الاضطراب وانعدام الأمان والاستقرار الأمنى والحياتى، لن يغامر سائح بالقدوم، بعض المشروعات الاستثمارية كانت قد توقفت فعليًّا، كان العائد القومى في تراجع؛ كما لم تكن هناك موجة غلاء وزيادة في الأسعار تحتم أن تتدخل الدولة لمعاونة المواطن، كنا بإزاء تصور أن الدولة ضعيفة، ويجب اقتناص ما يمكن اقتناصه، بغض النظر عن مدى الأحقية في ذلك ومدى قانونيته ودرجة مشروعيته، ولا تساءل أحد عن تحسين الخدمات التي تقدم للمواطن والتعامل معه باحترام، بلا تسويف وتعطيل. حدث أن توجه أحد السادة الوزراء لافتتاح قصر ثقافة بإحدى المدن، ومعه السيد المحافظ، حوصر القصر، ومُنع الوزير المحترم والمحافظ من الدخول، وتم التهديد بإحراق القصر ما لم يتم تعيين أبناء المحتجين والمحرضين وشبابهم، وتجنبًا للفضيحة، تمت الاستجابة، وافتُتح القصر، لكن بعد تعيين ألف وأربعمائة موظف وعامل، رغم أنه لا يحتاج أكثر من ثلاثين فقط.

 

 

وحيث إنه لا توجد مساحة ولا مقاعد لهذا العدد، فلم يذهب معظمهم بالمرة إلى موقع العمل، واتضح أن عددًا غير قليل كان يعمل، وكان مستقرًّا في أماكن أخرى غير رسمية بالإقليم.

 

 

بعد أن هدأت الأمور، تبين في أكثر من موقع أن هناك مَن تم تعيينهم بشهادات جامعية مزورة (ليسانس وماجستير ودكتوراة).

 

 

المعروف تاريخيًّا أن المطالب الفئوية نقطة ضعف كل ثورة، واجه سعد زغلول تلك المشكلة سنة ١٩٢٤ مع المعلمين الذين طالبوا بزيادة الرواتب، فغضب، ونهرهم، واتهم نشأت باشا، المسؤول بالديوان الملكى، والمقرب من الملك فؤاد، بمساندة المعلمين لإجهاض مطلب الثورة، وفى سنة ٥٢ وقع شىء مشابه في مصنع كفر الدوار، وتعامل اللواء محمد نجيب بقسوة بالغة مع العمال في «قضية خميس والبقرى». بارك سيد قطب الحكم، في مقال بجريدة «الأخبار»، وأشادت الخارجية الأمريكية باعتماد «نجيب» حكم الإعدام وتنفيذه في حق «خميس» و«البقرى». كان احتجاج العمال قد صُنف على أنه تحرك شيوعى لإجهاض ثورة يوليو، كان اسمها في أغسطس ٥٢ حين احتج العمال «الحركة المباركة»، الغريب أن أحكام الإعدام وقتها في مثل هذه القضايا يتم تخفيفها، وبعد فترة يصدر عفو صحى، لكن هذين العاملين نُفذ فيهما الحكم دون تريث. بغض النظر عن هذه الحيثيات، اعتبر اللواء محمد نجيب وزملاؤه المطلب الفئوى عملًا معرقلًا لمشروعهم.

 

 

وهناك مقولة تُنسب إلى فلاديمير لينين، قائد الثورة الروسية، بأن جهاز الدولة (الوظيفى) يجب أن يتحول لخدمة سياسة وتوجهات الدولة، والكارثة أن يحدث العكس.

Rochen Web Hosting