رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

ماذا كشف العلم والفضاء؟

قسم : مقالات
السبت, 14 نوفمبر 2020 11:29

إهمال معظم الناس فى زماننا للتوبة الفعلية الجادة، هو الذى زاد فى ضعف دين اليوم وتواريه فى قلوب وعقول البشر، وأوجد ما يشاهد الآن هنا وهناك من تظاهر البعض بالذقون والخطف والقتل وتكفير الخلق ابتغاء السيادة والحكم باسم الدين المسكين الذى لا صلة له على الإطلاق بهذه الألاعيب الملتوية على النفس والغير، وربما كان فى انتشار البطالة وضيق اليد واتساع رقعهما فى السنوات الأخيرة بمختلف البلدان.. ربما كان لهذا وغيره دخل فى انتشار هذا الهوس الذى يغذيه ثراء بعض الأثرياء، ومعونة بعض الحكومات المرتبكة المنعزلة لمقاومة اطراد ارتباكها وانعزالها الذى يودى بها!!.. إذ يعانى عالمنا منذ سنوات كساداً غير مسبوق، وزيادة هائلة فى السكان، ونضوباً فى الموارد، وهبوطاً فى الكفايات والقدرات، وتبديداً مزعجاً للأوقات والأعمار فى المكيفات والسهرات والتنقلات والسياحات والملاهى والملاعب، مع سقوط الذمم وندرة الأمانة والاستقامة.. فنحن لأول مرة نعانى ضيقاً عالمياً يشمل الأرض كلها!.. لم يسبق له مثيل من قبل!.. يحتاج بغير تلكؤ إلى علاج عريض يستلزم تعاوناً وتكاتفاً من الدول اليقظة، وإلى قرع نواقيسها لمقاومة مشتركة وعامة، تتصدى لهذا الوباء الذى يزداد فتكاً يوماً بعد يوم!

ثم إننا فى حيرتنا الشديدة التى نشعر بها اليوم مضاعفة عدة مرات عما كانت لدى آبائنا وآباء آبائنا فى الماضى الطويل المتطاول الذى نعرف بعضه ونجهل معظمه لقلة الحيلة.. هذه الحيرة خلقية فيما نفهم لأننا لم نعرف ولا نعرف حتى الآن، وربما إلى مستقبل، لا نعرف حقائق أنفسنا إلا من خارجها وفى خارجها، ويستحيل علينا أن نعرف داخل كل منا معرفة تامة كما يعرفها صانعها عز وجل.. وإذا كان يمكننا اليوم أن نرى رأى العين مادياً عن طريق الأجهزة مكونات داخلنا وعناصرها وتركيباتها الدقيقة، إلاّ أننا لا نعرف عمق هذه الدقة، ولا أصلها، وكيف كونت، ومن أى، ومن أين، وممن، ولماذا، وإلى أين؟!

إننا نولد لنعيش أعمارنا، لكن لا نُصنع على أعيننا، أو عيون آبائنا وأمهاتنا.. لا بمهاراتهم أو فنهم أو علمهم أو قدرتهم أو حصافتهم.. فهم بدورهم جاءوا للدنيا ولم يكونوا من قبل بتاتاً لدى آبائهم وأمهاتهم.. لا جسماً ولا فكراً ولم يَعُد ولن يعود لوجودهم أثر حىّ باقٍ!.. بهذا العلم يعيش كل منا حياته! وهو على محدوديته لا يدركه أو يعلمه سوى الآدمى المتأمل، أمّا ما دون الآدمى فلا يسأل نفسه أو غيره ممن دونه مثل هذا السؤال.. فنحن فى مستوانا فوق ما تحتنا وتحت ما فوقنا، فهذه درجات خلق وليست درجات مخلوقين!

وطبيعى أن ننسى كل ذلك أغلب الوقت كأحياء منحوا الإحساس بالذات «الأنا» المحوطة بالتفاوت فى الأزمنة والأمكنة وفى المعارف والعواطف والشهوات.. والترقى أو الانحطاط فيها!

ونحن جميعاً فى هذا التغير والتقلب المستمر منذ وجودنا على هذه الأرض.. نتعرض للهلاك جميعاً إن زدنا فى الكثرة السطحية الغافلة مع نقص العدد الكافى الواعى منا لمقاومة الكثرة الحمقاء.. وحتى الآن توجد وتتكاثر الكثرة الجاهلة، وتحذو حذوها قلة حمقاء تحاول أن تتكاثر.. تمضى الأمور عشوائية بغير نظام ولا ترتيب وتنسيق.. لأن الكثرة لا تثق فى كثرتها ولا تتدبر أو تتصرف إلا بعشوائية لا يمكن أن تعيد الأمور إلى اعتدالها وانسجامها كما كانت من قبل فى الماضى القريب أو البعيد!

ونحن عادة لا نحسب حساب الأقدار، وحسابها غير حسابنا الساذج الوقتى.. ولو لاحظنا بعضه وهو كل ما يمكننا لعرفنا طريقنا وسرنا فيه بلا عوج.. وربما كان التعرض للاعوجاج من خصائص الاختيار وإمكاناته التى يشعر بها كل منا فى نفسه صغيراً كان أو كبيراً. وهو مجال وميدان مفتوح أمامنا معظم الوقت لاستعمال ما نسميه الإرادة ومعنى أوسع نسميه الحرية.. فالإحساس بالاختيار يولد الإرادة، والإرادة قد تصل بنا إلى الحرية، والحرية تحتاج إلى عقل وفهم وأمانة. أما الحرية المعتادة النسبية للأفراد فى الأمم والجماعات فى الماضى والحاضر هنا وهناك.. فهى دائماً خاضعة بالخضوع اللازم الملازم من قرون ودهور لحكم حاكم منفرد أو متعدد.. فرعوناً كان أو خاقاناً أو سلطاناً أو ملكاً أو أميراً أو رئيساً أو هيئةً أو رياسةً.. يتبع ذلك سيل لا ينتهى ممن هم مرءوسون لمن فوقهم ورؤساء لمن تحتهم تدريجياً إلى آخر شيخ فى نجع ناءٍ يحكم أهل النجع بصورة ما حكماً صارماً أو مائعاً لخاضعين طيبين مستسلمين أو ماكرين فى الأغلب الأعم.. إذ لم ينقطع الخبث والدهاء والمكر والأنانية قط فى أفراد الآدميين منذ أن وجدت جماعة تجمعهم يعيشون فيها ومعها وبها كلٌّ نفسه وذويه.. إذ الآدميون منذ وجدوا تتنازعهم وتتأرجح فى داخلهم نوازع الخير والشر معاً، قد يغلب هذا أو ذاك، ولكنهما لا يتعادلان.. إذ لا يعيش كل فرد خيّراً دائم الخيرية إلى أن يموت، ولا شريراً يفرز الشر فى كل لحظة إلى أن يزول.. فكفة ما فى داخل كل منا قد يغلب عليها فى حياتها الخير فى الجملة فينفع وينتفع، وقد يغلب عليها العكس فى الجملة فيؤذى ويُؤْذَى.. ذلك أن الجماعة البشرية لكى تبقى بتوالى أفرادها وزيادتهم لا تستغنى عن حد معقول من التناسل والتكاثر، وعن حد معقول من وجود التعاون والألفة بين معظم أفرادها، لأنه إن اختل وجود هاتين النعمتين اختلالاً جسيماً زال توازنهما، وبادت الجماعة بسلوك أفرادها، كما تبيد بكارثة طبيعية أو تبيد بغزو من جماعة أخرى أقوى وأغلظ وأشد شراسةً وجشعاً وخبثاً!

والتأرجح بين الصفاء والعداء موجود بين الجماعات منذ وجدت.. لأنها مجاميع آدميين يفصل بين كل منها فواصل عميقة.. عرقية، خلقية، مادية، ومعنوية وإقليمية وتاريخية.. ربما تذوب هذه الفواصل فى مستقبل ما إن اتسع مجال الحياة المعقولة لكل آدمى، واختفت الحاجة والطمع والأنانية، ونسى الآدميون الغرور وتوابعه!

ومع اختلاف «الأنا» اختلافاً مؤكداً فى كل آدمى.. نجد أن التقارب لا يكف تكوينه، كما لا يكف التباعد أيضاً.. ونرى أن محاولات التصاق الأحياء بأمواتهم ومعارفهم محاولات أقرب إلى السطحية.. لأنها تذكارية لا تعدو محاولات الأحياء تذكر الماضين من الأقارب والمعارف.. أغلبها إما استحسان وإما عكسه، وكلاهما لا يخلو من العواطف السطحية أو المغالاة!

ومن يتأمل فى حياة البشر ماضية وحاضرة بشىء من الإمعان، يحس أنها أمواج تتدفق باستمرار، مختلفة السرعة بين الاندفاع وبين الركود.. وقلما تبقى فى حدود التوسط والاعتدال والتعقل.. ويحس أيضاً فى تأمله أن هذه الأمواج تنقطع حتماً مع نهاية كل حى كائناً من يكون، ولا يبقى منه إلاّ أقل القليل فى الذاكرة أو فى الكتب أو الآثار أو الفنون أو العلوم أو الآداب أو السير أو السياسة أو الصناعات والحرف أو التاريخ.. ساعدَنَا على ذلك بقدر ما تيار الحياة المتدفق لدى كل منا.. إذ ينسى كل منا أطوار حياته كما كان يعيشها، وذلك بمجرد انتقاله انتقالاً حقيقياً من طور إلى طور.. ولو دقق لوجد أن حركاته التى لا تنقطع تتشابه، لكنها دائماً متغيرة من لحظة إلى أخرى.. ناهيك عن الانتقالات والمتغيرات من سنة إلى سنة ومن عمر إلى عمر ومن جيل إلى جيل!

يستحيل على جيل حىّ أن يحيا حياة جيل سابق أو قديم إلا حياة متكلفة غير صادقة.. ويستحيل على كل حىّ أن يحاكى حياة أبيه أو جده أو من هو أبعد من ذلك محاكاة صادقة جادة.. وتقليد الماضين هذا التقليد الأعمى خرافة! ولكن من حق كل جيل أن يأخذ بفضيلة كانت عند الماضين إن عرف كيف ينجح فى تقديمها لجيله وزمنه، أو أن يؤيد فى جيله حقيقة عرفت فى الماضى على نحو معين وأن يهذبها هو على نحو نافع يلائم حاضره وحاضر من يعيش حياته معهم.

Rochen Web Hosting