رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

الفطنة الآدمية أحوال وأطوار (4)

قسم : مقالات
الأربعاء, 23 ديسمبر 2020 14:11

الكون الذى عرفه البشر ويعرفه وسيعرفه فيما نعلمه أساسه دوام غيرية الأفراد فى كل الجماعات بغير استثناء.. شريطة ألا ينحل مجتمع الجماعة ويتعرض للتفرق والتمزق الدائم الملازم بلا رجعة وعودة للتجمع.. فالأنا سائدة دائماً فى جميع الآدميين من الميلاد إلى نهاية الحياة على نسب ودرجات وأعماق لا أول لها ولا آخر.. لم تكن قط إلا صناعة خالقها سبحانه وتعالى.. لم يقوَ الآدمى ولا يقوى ولن يقوى على حذفها أو تجاهلها من حياته فى أية مرحلة منها إلى آخر لحظة فيها.. لكنه معرض فى كل وقت فيها للمغالاة والإسراف والكبرياء والقسوة والجبروت.. بلا عذر يسبقه أو يبرره عقل العاقل الرشيد!

وحساب الآدمى لنفسه هو حسابه لهذه «الأنا».. لأناه.. وهو حساب ليّن رقيق فى العادة مستعد لتناسيه فى الأعم الأغلب ولا يشعر بثقله، فإن أرهقه التمس له الأسباب والمعاذير.. أما حسابه للغير فيختلف باختلاف ما تراه أناه بعاطفته ليناً أو شدة أيضاً فى الأغلب الأعم.. إذ قلّما يغلب عقله أناه فى هذا الصدد!

تغاير معنى الأنا فى كل آدمى واقع جارٍ ومستمر دون أن يلحظه أو يلتفت إليه!.. إذ هى جانب هائل من جوانب حياته.. ومن نموه الذى يتغير من يوم إلى يوم.. ويذوب فى تواليه دون أن يشعر به إلا إذا توقف وتأمل بين الحين والحين وبعد وجوده بمدة.. فمعنى «أنا» الآدمى ملازم لمعنى حياته المستمرة المتغيرة إلى أن تنتهى.. وتغيرها لا ينفصل عن تغير حياته الدائب.. ولا وجود ولا مطابقة لهذه أو تلك عند سواه.. لأن الخلق لا يتجمع إلا للمشابهة فقط، ويستبقى كل منهم ساحة متفردة خاصة بى هى الذات أو الأنا.. ومن داخل هذه الساحة: الأمومة والأبوة والإخاء والقرابة القريبة والمحبة والولاء والصداقة الصحيحة.. والخلل فى هذه العلاقات نادر إلى الآن، فإن انحطت هذه العلاقات زالت الذات واختفت «الأنا» وانتهت البشرية قاطبة.. وقد حصل ويحصل هنا وهناك لون أو ألوان من ذلك الانحطاط، ولكن زال ذلك بظهور اقتدار وإصرار أقوياء قاوموا هذا الهبوط مثابرين مليئين بالعزيمة والأمل والرجاء!

واختلاف السحنة لدى الآدميين قديم جداً، وهو كذلك حتى اليوم، وهو مع ذلك غير قليل التقارب فى عالم الذوات البشرية الذى تتميز فيه كل سحنة عن سواها، وفى الوقت الذى كثيراً ما يجمع بقوة جاذبيته مشابهة أو أكثر تسمح بتحقق معنى القرابة.. فضلاً عن معنى المصاهرة بين الأفراد فى كل جهة متحضرة وغير متحضرة تستدعى إلى جانب ذلك الشعور المتبادل بالولاء الجاد أو الصداقة المخلصة دون نسب أو قربى!

والغضب قليل جداً لدى «أنا» الشخص الهادئ العاقل، وقلما يكون ذلك إلا لإساءة تثير الصدر الواسع الحليم فتتجاوز آخر سعة الصبر والتحمل لديه.. لكن الغضب غير قليل لدى معظمنا.. لأننا لا نلتفت كثيراً للعناية المفروضة الواجبة لفهم ومراقبة داخل كل منا.. فأغلبنا يغضب لتخيلات متداولة فى المحيط اعتدنا على الانفعال بها واستعمالها واستخدامها بغير فحص جاد.. وقد تترسب فى الأعماق لطول الاستعمال والاستخدام. وهذه الخفة قديمة جداً.. زادت مع توالى الأزمان والأجيال وكثرة الخلق.. وعاش ومات عليها تضاؤل بل انعدام الالتفات للصبر واحترامه والإيمان بضرورته لاتزان الذات واعتدال «الأنا».. ونحن الآن مع ما لحق بالكثرة غير المسبوقة التى فقدت اتصالها الجاد بداخلها.. حدث ويحدث ذلك، بل وطفق يزيد مع زيادة المعارف التى لم يسبق لآبائنا قليل منها أو كثير، واتساع حاجاتنا كباراً وصغاراً، أغنياء وفقراء، وتنوع غاياتنا وأغراضنا كل يوم بل كل لحظة، وكثرة حركاتنا وتنقلاتنا صباح مساء.. هذه الحركة التى لا تهدأ أرضاً وبحراً وجواً مع دوران الأرض.. فقدنا فى هذا الزخم المتزايد الاتصال الجاد بداخلنا.. إذ صار غائماً سطحياً فقط.. يتنقل على «أنا» كل منا فى كل وقت معالم وآثار محيطه واسعاً أو ضيقاً!

وعقل كل آدمى يبدأ عمله أولاً من مولده بصراخه، ثم ينمو شيئاً فشيئاً مرحلة بعد مرحلة بحسب ما هو ميسر له. وليس قليلاً أن يضيق أو يسد الأبواب المفتوحة على نفسه المرحبة بتقدمه وأحياناً المبالغة فى ترحيبها بذلك التقدم.. إذ لا ترى «أناه» فى الوجود إلا أغراضها ومعها حماقتها أو شدة انحطاطها وحقارتها وهوانها على نفسها قبل هوانها على الناس!

و«أنا» الآدمى لا تقاوم نسيانه.. إذ النسيان يخفى ما أهمل وما حدث وما وقع وما ارتكب مما لم تعد تتحمل الذات وطأته، لكنها لا تمتنع عن تكراره برجاء إفلات المستقبل من أذاه مادياً أو أدبياً، عاراً كان أو ضياعاً لمال أو لعمل!.. وفى قديم الزمان كنت تجد عاقلاً متزناً بين كل مائة نفر أو أقل.. حاضراً مستعداً يُرجع إليه فى الملمّات والمتاعب، والآن مع هذه الكثرة الكاثرة لا يكاد يوجد بين المئات عاقل واحد يمكن الاستعانة به فى مشاكل ومآسى هذا أو ذاك من هذا الحشد الحاشد الحالى من الناس.. فقد عانى زماننا من اختفاء العقلاء.. برغم تزايد العلماء وكثرة الكاتبين والقرائين والمتخصصين وغير المتخصصين والناقدين والمؤرخين!

قد صرنا الآن جميعاً نجهل معنى الثقة المتمكنة الثابتة، وذلك للتساند الظاهرى أو المصلحى السائد العاجل الذى يحل محله غده بما معه من ترحيب والتفات وقتى تعودناه ولم نعد نعرف سواه فى حياتنا.. هذه الحياة التى صارت شديدة التغير والسرعة والنسيان لما فات وانقضى كلياً أو جزئياً.. إذ لم تعد حياة معظم الناس تتطلع إلى نجاح مرجو بحماسٍ تحقيقه فى المستقبل. فلم يعد أغلبنا يتمنى ما كان الآباء من قبل يتمنونه لنسلهم من بعدهم.. خفتت الآن بعد الطفولة صلات الأبناء بالآباء والأمهات، وزادت الحرية الشخصية من اتساع الهوة كثيراً بين الأبناء والآباء.. إن لم يكن الجحود والنكران!.. وهان البعد المكانى والزمنى ووهنت للأسف الأواصر بين الطرفين، وبات القرب الفعلى يكاد يكون معدوماً إلا فى نادر النادر.. وربما كانت هذه الهوة لأن «أنا» كل منا قد شعرت بتمكنها من استقلال ذاتها ولم يعد يحوجها الاتكال والمعونة الأسرية.. صارت صلات الآدمى الواسعة الآن بما حوله كلها قشرية خالية من اليقين الذى ضاع وحلت محله الآراء والأفكار الدائمة التقلب والتحول والتغير دون أى استقرار أو ثبات!

Rochen Web Hosting