رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

تبييض الأنظمة من صفحات الماضى!

قسم : مقالات
السبت, 09 يناير 2021 21:57



لعل الصحيح ما كان قد نادى به، وإن لم يلتزمه، الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، من أن الأفضل أن تكون الرؤية عن بُعد، حتى لا نغرق فى التفاصيل على حساب الرؤية العريضة، وعن بُعد زمنى من الأحداث حتى لا تتأثر الرؤية بموازين وقوى وعوائق الحاضر، وكثيراً ما تجبر المراقب على أن يترك أشياء كانت جديرة بالتعقيب، وقد تدعوه إلى تبنّى نظر لا يستقيم بالمعايير الموضوعية التى لا تنحاز انحيازات شخصية تفرضها ضغوط موازين القوى فى الحاضر.. وقد دلّت مدوّنات التاريخ أن أقربها إلى الصدق والموضوعية، ما كتب عن بُعد زمنى من الأحداث وأبطالها، وتستطيع أن تلمس ذلك بوضوح فى مذكرات ساسة النظام السياسى قبل يوليو 1952، فلم ينجُ منها إلاَّ القليل النادر من الانحيازات الشخصية أو الحزبية أو السياسية.. ومن المدونات التاريخية التى شذّت عن القاعدة تاريخ الجبرتى، فهو رغم معاصرة المؤرخ للأحداث التى رواها فى تاريخه، إلا أنه قد التزم الصدق والموضوعية، لذلك عاش تاريخه إلى الآن قِبلة لمن يريد أن يعرف حقائق تلك الحقبة.

وأينما ولينا النظر فى صفحات الماضى المنطوية، سوف نجد مشاهد غير قليلة من تبييض الأنظمة، سواء ما كان منها أقرب إلى غسيل الأموال، أم ما كان منها تبييضاً للنظام ذاته ليحمل أوزاره غير من كان يحق مساءلتهم عن تلك الأخطار والأوزار!

تبييض وجوه الأنظمة، هو المرادف لمصطلح غسيل الأموال.. الفارق أن غسيل الأموال صار الآن جريمة جنائية تعاقب عليها التشريعات الوضعية فى معظم بلدان العالم، بعقوبات جنائية طبعاً، بينما تبييض وجوه الأنظمة جريمة سياسية لم تدخل المدونة العقابية، لأنها تحدث إن حدثت فى نظم تستقوى على شعوبها بشوكة السلطة، ولا تسمح بداهة بتجريم خداعها لمحكوميها، ولو فعلت لما كانت فى حاجة أصلاً إلى تبييض وجهها، فهو أبيض بسوائها وعدلها بين حكامها ومحكوميها، ومساواتها بين أغنيائها وفقرائها، وبين أقويائها وضعفائها، وبصدق توجهها وموضوعية سياساتها وقراراتها وتصرفاتها وأعمالها!

الأنظمة لا تلجأ للتبييض إلاَّ إذا أرادت خداع الرأى العام عن الصورة السلبية التى جعلت تحيط بها، وللأنظمة سوابق كثيرة، هنا وهناك، فى عمليات التبييض التى لا تترك الأنظمة المأزومة صورتها فرصة إلاَّ وتغتنمها لصرف الأنظار عما علق بها، وبث صورة خادعة جذابة للتجمل بها فى عيون الناس!

وضعتنى المصادفات بقرب لب أحداث كثيرة شهدتها مصر، وكان من قدرى أننى راجعت معظم قضايا النكسة، وراجعت فى مرحلة الطعن قضية الطيران التى حوكم فيها الفريق أول صدقى محمود وثلاثة آخرون من قادة القوات الجوية عام 1967، وقضية العميد صدقى عوض الغول قائد الفرقة الرابعة المدرعة، وعدداً من قضايا القوات المصرية التى كانت فى اليمن، ودرست وكتبت جانباً من مرافعة الادعاء وإن من خارج الصورة فى القضية رقم 1 لسنة 1967 لمحكمة الثورة، التى حوكم فيها شمس بدران وعباس رضوان وصلاح نصر وآخرون، والقضية رقم 2 لسنة 1967 لمحكمة الثورة التى حوكم فيها صلاح نصر عن تصرفات شخصية أعطيت وقتها عنوان الجهاز الذى كان يترأسه، وكان الجهاز ولا يزال محل تقدير، ولم يتكلم أحد عنه بكلمة سوء واحدة منذ طويت صفحة محاكمة صلاح نصر ومجازاة بعض من كانوا معه.. وأتاح لى ذلك الإلمام بكثير من الأسرار التى لم يحن بعد أوان الإفصاح عنها، ومما أفصحت مذكرات القادة والسياسيين عنه أن قائد القوات الجوية وُضِعَ آنذاك فى صورة لم تكن منصفة، فلم يقصر الرجل فى محاولة إمداد القوات الجوية بقاعدة صاروخية للدفاع الجوى قادرة على التعامل مع الطيران المنخفض، وروى الفريق أول عبدالمنعم رياض رئيس الأركان بعد النكسة فى شهادته بالمحاكمة الأولى لقادة الطيران قبل الإعادة، كيف كلفه الفريق أول طيار صدقى محمود بمناسبة سفره قبل النكسة فى مهمة إلى الاتحاد السوفيتى بالبحث وإمداده بأحدث ما أخرجته الترسانة السوفيتية للتعامل مع الطيران المنخفض. وروى الفريق أول عبدالمنعم رياض أنه شعر أن أقدمية الفريق أول صدقى، حالت بينه وبين الإفصاح عما يلاقيه ممن هم أصغر، ووضعتهم السياسة فى مواضع أكبر بالقيادة العامة.. كما ثبت فى تحقيقات محكمة الثورة، وما كتب من مذكرات للقادة، أن الفريق أول صدقى اعترض على تلقى الضربة الأولى حينما أبدى الرئيس عبدالناصر أن الموازين الدولية تقتضى ذلك، ونبّه صدقى محمود فى اعتراضه إلى أن هذه الضربة سوف تكون معجّزة، ولكن الموازين الدولية فرضت على الرجل كلمتها، على غير موافقةٍ منه.. ومع ذلك دُفِعَ به إلى المحاكمة التى ألهبت الشارع والمظاهرات ضد قادة الطيران الذين دُفعَ بهم لتبييض صورة الآخرين، وكان المثال الأوضح على عدم إنصاف السياسة أن زُج أيضاً بالفريق أول طيار جمال عفيفى رئيس الأركان إلى المحاكمة، مع أنه لم يكن قد مضى عليه فى موقعه سوى أربعة أسابيع قبل 5 يونيو، كان قبلها رئيساً لمؤسسة «مصر للطيران» بعد أن أحيل قبل سنوات إلى معاش فرضته أيضاً مراكز قوى.. ومع أن المحاكمة الأولى قضت ببراءته هو واللواء الدغيدى، إلاّ أن قرار القيادة السياسية رأى أن تشملهما إعادة المحاكمة التى قضى فيها للمرة الثانية ببراءتهما، فلم يعد أمام القائد الأعلى رئيس الجمهورية سوى التصديق على الحكم القاضى للمرة الثانية ببراءتهما!

لعبة تبييض الأنظمة السياسية لعبة قديمة، أمثلتها فى الماضى عديدة، تعطى للأقوى فرصة تحميل من يشاء بما يشاء لصرف الأنظار عن المسئولية الحقيقية، أو لتجميل الصورة، أو إظهار جدية الأنظمة فى المساءلة والحساب!

على فظاعة حادث قطار العياط، فإنه يعبّر عن «حالة» نعانى منها أكثر مما يعبّر عن خطأ يمكن أن يُسأل عنه وزير النقل مسئولية سياسية.. هناك ولا شك مسئوليات جنائية ينبغى محاسبة المخطئين فيها، ولكن معظمها يرجع إلى تراكمات سنين، فضلاً عن تواضع مستوى الخامة البشرية التى ينضح تواضع أدائها فى مواضع كثيرة فى شتى المرافق.. فى النقل وغير النقل.. منها ما حدث فى حريق قصر ثقافة بنى سويف، ومع ذلك اختلف عيار المسئولية الوزارية بين الحادثين، اختلافاً يعبر عن رغبة فى التبييض على حساب الوزير محمد منصور.. شعرت بها فى العنوان السماوى الذى حملته إحدى الصحف القومية: «منك لله يا محمد منصور»!!.. وفى المغالاة فى تهجم المناقشات النيابية على رجل ظنى أن أداءه ومسلكه كان محلاً للتقدير، مثلما كانت مبادرته بتقديم الاستقالة محل احترام، لولا أن لعبة السياسة ضحت به فى أول منعطف، سعياً إلى التبييض!

Rochen Web Hosting