رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

أثر المحيط وظهور النوابغ والأفذاذ

قسم : مقالات
الأحد, 24 يناير 2021 18:00

لا يمارس الآدمى فى أى زمان ومكان، لا يمارس اختياراته الشخصية إلاّ من خلال ما عرفه نوع معرفة من اختيارات الناس.. سواء المعاصرين له أو الذين سبقوا وسلفوا فى أزمنة ماضية لا سبيل إلى تقصيها أو تقصيهم.

فعقلى أو عقلك منذ بداية البداية لا يعمل إلاّ فى محيط بشرى.. أو بعبارة أكثر دقة فى محيط من اختيارات لعقول بشرية معاصرة أو ماضية.. بعضها قد يكون معروفاً له أو قابلاً للمعرفة، وغالبها مجهول تماماً لا يمكن التعرف عليه بأى وسيلة.. فلزوم هذا المحيط البشرى وملازمته لحياة كل آدمى متحضر أو همجى من ساعة مولده إلى لحظة وفاته، هو كلزوم وملازمة المحيط الطبيعى الذى يولد أو يعيش أو يموت فيه لا يفارقه إلاّ بمفارقة الحياة نفسها.

ويبدو أن هذا ملحوظ فى تركيب وسعة وكفايات المخ البشرى، وملحوظ فى تشابه العقول الذى يسمح للزنجى أن يفهم مراد الصينى والأوروبى والتعلم منه، وأن يقرأ الهندى ويتذوق شعر الأمريكى وأدب اليابانى وفولكلور الإسكيمو، ويتيح لكافة أهل الأرض سماع الإذاعات بمختلف اللغات واللهجات وفهمها.. وهذا ملحوظ أيضاً فى زيادة استجابة عالم الطبيعة لحسابات الآدميين الرياضية وقواعدهم الفيزيائية والكيماوية والفلكية وقياساتهم حسب اصطلاحاتهم ورموزهم.. وهو ما يعطى لمخ الآدمى وعقله بقدر ما طابعاً كونياً يتجاوز موضع الإنسان على هذه الأرض وانتسابه إلى أشقائه فى عالم الحيوان.

وفردية اختيار الآدمى دائماً فردية اقتطاف من حقل أو حقول أعم داخله وخارجه، وقد تجرى مع الاقتطاف إضافات تضيفها اجتهادات واستعدادات ومواهب خاصة فى الفرد.

وإذن فكل إنتاج لفرد أياً كان وكانت موهبته هو، أو عبقريته هـو، أو نعمة الله عليه هو معظمه من ذلك الاقتطاف، أى من ذلك الحقل الأعم الماضى والمعاصر.

فالبشرية لها قادة بلا شك.. نعرف بعضهم ونجهل معظمهم، لكن ليس لها صناع أو صانعون معينون صنعوا أو يصنعون اختياراتها.. فهذه غير قابلة لتحديد المصدر بأى يقين. وهو أمر يشهد به بشدة اختلاف التاريخ والنظم والعقائد والحضارات.

هذا وقد لفتت قوة تأثير ذلك المحيط البشرى فى تقدم المعرفة أنظار الآدميين من قديم، ودعتهم إلى إنشاء المدارس والمعاهد والمكتبات والمراصد، ثم دعتهم فى العصر الحديث إلى استخدامها بطريقة منظمة دائمة فى حل المشكلات المعينة التى تبدو أكبر أو أعجل من أن تترك للاختيارات الفردية.. فجمعت الكفايات فى الموضوع الواحد أو فى المواضيع المختلفة المتصلة.. جمعت هذه الكفايات لتعمل معاً أو بالتعاون فى معامل أبحاث أو مؤسسات مستقلة أو تابعة لجامعات أو لشركات، وزودت بالأموال الضخمة التى تلزمها والتى لا قبل للأفراد بها. وقد أنتج ذلك نتائجه الهائلة فى العلوم والفنون والتقنيات والصناعات، وإليه يرجع ما نرى الآن صداه فى حياة الناس!

على أن أثر المحيط، وإن كان يبدو له دور فى تكوين إمكانيات وكفاءة الأوساط فأقل، إلاَّ أنه لا يكفى بذاته لظهور النوابغ والأفذاذ من أصحاب الرسالات أو القديسين أو الأئمة أو الشهداء، أو من العلماء والمفكرين والفنانين وكل من يخرج من بحر العاديين ليشكل قيمة متميزة متفردة تبذ وتبرز بنبوغها وتفردها!

ظنى أنه لا بد لذلك مما أسميه «فائض إحساس» غير عادى بالصدق والاستقامة لكل صاحب رسالة روحية.. نبياً كان أو ولياً أو قديساً أو إماماً أو شهيداً.

ولا بد من «فائض إحساس» غير عادى بالحقيقة لمن كان عالماً قديماً أو حديثاً بعلم أو أكثر من العلوم الطبيعية أو الكيميائية أو الطبية أو الهندسية أو الاجتماعية.

ولا بد من «فائض إحساس» غير عادى بالجمال للفنان رساماً كان أو نحاتاً أو مصوراً أو بَنَّاءً أو ملحناً أو ممثلاً أو مخرجاً.. شاعراً كان أو ناثراً أو قصاصاً.. موسيقياً مؤلفاً كان أو عازفاً.. إيقاعياً كان أو راقصاً أو تعبيرياً بأى نحو من الأنحاء..

هذا «الفائض» غير العادى فى الإحساس، هو القاسم المشترك بين الإمام والعالم والفنان والأديب والشاعر.. من هذا الفائض غير العادى فى الإحساس يتشكل وجدان كل منهم وانطباعه بموضوعه وأهميته، ينمو ويزداد وجوده وعطاؤه إذا صادف ظروفاً ملائمة مبكرة أو حتى متأخرة للنمو والتطور.. وقد يختنق ويموت إذا حاصرته ظروف معاكسة تناوئ وتقوض وتميت ما لديه.. شأن أى موهبة لا تصادف الأرض والمناخ المناسب لنمائها وازدهارها.

أما جمهور الإمام أو العالم أو الفنان أو المفكر أو الأديب أو الشاعر، فإن القدر المشترك بين هذا الجمهور هو وجود الإحساس المعتاد وجوده لدى الإنسان العادى بالصدق والاستقامة أو بالحقيقة أو بالجمال.. هذا الإحساس الذى يقبل الإيقاظ لوقت يقصر أو يطول.. يتلقى فيه الإشباع بما يحبه لدى كل من هؤلاء من الموهبة والعطاء الناجم عن فائض الإحساس غير العادى. هذا الفارق بين أولئك الموهوبين وجمهور الناس، هو فارق خلقى طبيعى غير معلل وغير قابل للتعليل.. ولذلك لا نجد الموهبة حاضرة فيمن يدعيها أو ممن يدعيها لمدعيها، وإنما تثبت فقط بوجودها واقعاً حاضراً بغير ادعاء ولا استعراض، تدوم ويدوم أثرها حتى بعد وفاة صاحبها الموهوب الذى يظل الجمهور عارفاً به وبموهبته ذاكراً لهما بعد موته وانقطاع السبل بين الراحل وادعاء ما اعتاد بعض الناس أن يلحقوه بأنفسهم من مواهب أو مزايا أو صفات!

بل نرى أن موهبة مثل عبقرية فان جوخ أو كوبرنيك ظلت مجهولة فى حياتهما، لم تعرف ولم يدركها الجمهور إلاّ بعد موتهما وانقطاع أى سبيل لأى منهما للحديث عن موهبته أو الترويج لها!!

ووجود الموهبة فى الذرية مطمع من قديم الزمان يرجوه ويتمناه الآباء والأمهات.. رأينا ونرى حرصهم حسب اقتدارهم على إلحاق أولادهم بذوى المواهب.. ليتعلموا منهم ويتأثروا بهم وتنضح عليهم مواهبهم لكن بما قد يكتسبونه منهم من معلومات وأساليب ومهارات.. أما «الموهبة» ذاتها فلا سبيل لتعليمها أو تعلمها أو توارثها!

فى زماننا نرى الآلاف فى المدارس والمعاهد يطلبون العلم والعلوم والآداب والفنون، ومنهم من ينال الشهادات الرفيعة والألقاب العلمية والدينية والفنية، ولكنهم لا ينالون «الموهبة» لأنها سجية مطبوعة قد تنمى بالدربة والممارسة، ولكنها لا تخلق ولا تكتسب مهما أنفق الدارس فى قاعات العلم والفن والدراسة.

ومع شيوع الاستغراق فى الظاهر والمظاهر، جعل الأوساط من أرباب الشهادات ودواليبها يحتلون محاور الحياة العامة التى خلت أو تكاد من أصحاب المواهب، وفارقها الجد والإنتاج بقدر ما فارقت الواقع وابتعدت عن الصدق والمعقولية!

ليس هذا تقليلاً من شأن الشهادات وما تعبر عنه من تحصيل لمعارف وإمكانيات، وإنما يأتى الخطر حين تزيح الشهادات أو تزيف المواهب وتواريها وتحول بينها وبين التعبير عن امتيازها وتفردها وفائض ما لديها من إحساس غير عادى بالصدق والاستقامة والجمال.

إذا توارت المواهب أو أزيحت، جفت حياة الناس وتزايدت مشاقهم فى مجتمع يستغرقهم بعاديات الأمور ويشغلهم بطعامهم وسكنهم وصحتهم وعملهم وأمنهم.. مهددين فى ذلك بمغامرات ومجازفات المستغلين حملة المراتب أو«المواهب الرسمية» الزائفة!.. الذين بيدهم مرافق الدولة يديرونها بما شاءوا بلا فائض إحساس بل بلا إحسـاس وبلا شعور بالمسئولية وبلا محاسبة.. لا يردهم عما اعتادوا إلاّ الخوف إن كان له سبيل!!

Rochen Web Hosting