رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

متى نفقد الصدق؟!

قسم : مقالات
الإثنين, 01 فبراير 2021 11:30

الناس فى تعلقهم بالصدق صنوف ودرجات، وصدقهم مهما صدق صدق نسبى لأنه بشرى.. ونحن نفقد تعلقنا بالصدق حين نكف عن اعتباره قيمة تعلو على أنفسنا ورغابنا وعلى المصلحة والمنفعة.. حين لا ندرك أن قيمة الصدق فيه وأنها لا تتوقف على نفعه لنا، أو حين تصبح المصلحة هى حد الصدق وتدخل الفوائد والمنافع فى تعريفنا له!

إننا نفقد الصدق حتماً حين لا ترى ضمائرنا بأساً من الترحيب بالكذب والباطل المتوَّجين بأكاليل المصلحة الحاضرة والانحناء لهما.. للكذب والباطل! وإفساح الطريق أمامهما.. حين نشعر بأن الصدق رداء ونرى أننا أحرار فى اختيار نوع الصدق وفى صنعه وفى التحكم فى مقوماته، وأن مشيئتنا وإرادتنا فوق فكرة الصدق والكذب والحـق والباطل.

إننا نفقد الصدق حين ننسى أنه لا يعيش إلاّ إذا كان سقفاً واحداً لمشيئة البشر، وفوق نسبية أحكامهم وآرائهم.. نفقده حين ننسى أنه «أداة القياس النهائية» التى تقاس بها كل القيم، أو حين نغفل أنه قيمة مطلقة لا يرد عليها قيد أو استثناء إلاّ بإذن قيمة مطلقة أعلى منها مصدرها الله عزّ وجل.

إن ميل كثير من الناس إلى الكذب على أنفسهم وعلى غيرهم ميل طاغٍ، يبين أن الضمائر وحدها أو ما نسميه القانون الأخلاقى والإيمان بالإنسانية لا يقوى فى الغالب على صد هذا الميل إلى الكذب ورده، ويبين أن الناس بشهادة حالهم فى أشد الحاجة إلى سلطة فوق أنفسهم يسلمون لها بالقدرة على معرفة وكشف كذبهم، ويسلمون بأن عمل هذه القدرة لا يمكن أن يفسد بالرشوة والزلفى أو بالضغط والقسر، أو أن يضلل بالمكر والحيلة.. هذه القدرة «سلطة» فوق قدراتنا البشرية خيرها وشرها لا تضعف بالاعتياد، ولا تفقد نفوذها ومكانتها مع طول الاتصال والمعاملة.. هذه السلطة لا يمكن أن تكون سلطة أرضية، لأن كل سلطة أرضية هى حتماً سلطة بشر مهما أسبغنا عليها من أوصاف وتصورات فلسفية أو قانونية!

هذا وبرغم ما نراه من زحام والتصاق مادى، فإن أهل هذا العصر بُعداء غرباء، يخافون من الود والثقة.. وفى أعماقهم وحشة وعزلة وربما بُغض للروابط التى تربطهم بالآخرين بوثاقة وعمق. ذلك لأننا لم نعد نمارس التعلق بالصدق، وأنسانا الذين يهمهم أن ينسى العالم قيمة الصدق، أنسونا أننا وإن أمكن أن نختلف حول البينات، فإنه لا يجوز أن نختلف على الصدق ذاته والولاء له كقيمة مطلقة.

فى هذا العالم الذى لا يحب التعلق بالصدق، يبدو دين الصادق الأمين غريباً يوشك أن يكون مطلباً بعيداً عن ممارسات ومداورات وحيل وأساليب الناس. وليس يمكن اعتناق الصدق إلاّ بالشجاعة والإخلاص، وقوامهما الإيمان بالولاء المطلق لله عزّ وجل، هذا الولاء الذى تتضاءل أمامه رغاب المنافع والمآرب والأغراض، وتعلو قيم الحق والكمال والجمال.. إلى شجرة الجمال والكمال تنتمى كل الشمائل والسجايا ومنها سجيّّة الصدق، وهى سجيّة مانحة، تنعكس على كل ما يصدر عن الإنسان فى عبادته ومعاملاته وعمله.. حين يغيب الصدق أو يهن، تختل بوصلة الأشياء، وتنبهم المعانى، ويتوه الناس عن الحق الذى هو قبلة كل عاقل مدرك لمعنى وقيمة الولاء لله عزّ وجل.

صادفنى فى إبحارى فى النماذج الإنسانية، فنان صادق مع نفسه، لم يُثنه عن هذا الصدق تجاهل الناس لأعماله الفنية، ولا طول واستمرار هذا التجاهل؛ فقد كان إيمانه بموهبته نابعاً من صدق صافٍ مع نفسه، وكان هذا هو سلاحه الوحيد الذى واصل به فنه رغم إنكار معظم المعاصرين لموهبته.. هذا الفنان الرائع ظلمه معاصروه وطال ظلمهم له، فلم ييأس ولم يتوقف، ودفعه صدقه مع نفسه وإيمانه بموهبته إلى مواصلة رسم لوحاته، حتى احتلت أعماله ركناً فى سجلات الأعمال الفنية الخالدة!

مع طول صموده ظنه الناس ساذجاً غير جدير بأن يحقق شيئاً.. فالرجل بسيط يعيش فى مسكن من غرفة واحدة، بأحد أحياء باريـس الفقيرة، لا تبدو عليه معالم النجابة، ولا فيه أى ميل للاستعراض، فقد وضع نفسه فى بساطة فى خدمة جيرانه، يكتب الخطابات لمن لا يستطيعون الكتابة، ويعلِّم البلاغة والعزف على الكمان والماندولين للأطفال والكبار أحياناً، ولا يكاد يقتنص لنفسه إلاّ ساعات قليلة متباعدة يقضيها فى رسم صور لم تجد لها سوقاً فى ذلك الأوان.

هذا الفنان أو الساذج الخالد كما كانت تحلو تسميته لدى البعض هو هنرى روسو.. مخلوق رقيق، طيب القلب، برىء مع الناس فى معاملاته، ولم يشعر بالضيق حين استقبل الناس بالضحك لوحته: «الغجرية النائمة».. ظن ضحكهم تعبيراً عن الرضا والسرور!

ولم تمضِ سنوات إلاّ ولم يعد أحد يضحك على صور روسو التى أخذت تتتابع فى تواصل وتميز لافت، حتى عادت صورته الشهيرة «الغجرية النائمة» فنالت تقديراً هائلاً واعتُبرت إحدى الدرر فى متحف نيويورك للفن الحديث الذى ابتاعها من هنرى روسو بمبلغ (25) ألف دولار.

هذا الثمن كان رقماً فلكياً فى حياة روسو.. فمنذ وُلد فى عام 1844 لسمكرى فقير.. كان من النادر أن يكون بحوزته أكثر من 125 فرنكاً.. وعاش حياة عسيرة وعمل بأعمال بسيطة واشترك فى الحرب الفرنسية البروسية، ولولا شغفه العميق بفن الرسم، لما استطاع أن يفسح له أى مكان أو نصيب فى حياته.. عندما بلغ الأربعين قرر أن يعود إلى الرسم بانتظام وإصرار، وأخذ يرسم فى حرص عنيد ودقة شديدة، لا يصرفه انعدام أو تفاهة المقابل، ولا يوئسه أن يبيع لوحة أنفق فى رسمها شهرين أو ثلاثة مقابل (35) أو (40) فرنكاً لا تكفى ثمن اللوحة الخام والألوان، ولكن الموهبة كانت تدفعه ومعها إصراره واقتناعه بأن يفعل شيئاً ذا قيمة.

هذا الساذج الخالد، دفعته موهبته إلى الجلوس يومياً فى مرسمه من الفجر حتى حلول المساء، وفى هذا الهدوء الذى يشبه هدوء القديسين أبدع روسو عشرات اللوحات الرائعة.. «مكتب تحصيل المكوس»، و«ضفاف نهر الأويز»، و«الصيف والمرعى».. وفى سنواته الأخيرة بلغ الغاية فقدم فيها سلسلة رائعة من مشاهد الغابة.

اللافت أن هذا الفنان الأصيل احتمل فى صبر تجاهل الناس الذين ظلوا لوقت طويل ينظرون إليه على أنه أصغر من أن يكون فناناً متمكناً، وربما ظل بعضهم ينظرون إلى رسمه باستخفاف حتى بعد أن بدأ النقاد والخبراء يلتفتون إليه ويتوافدون على مرسمه.

ومع ذلك لم تفارق البراءة ولا الرضا هذا الفنان المبدع، وظلت ماكينة موهبته تفرز بلا كلل إلى أن مات سنة 1910 ليُدفن بمدافن الفقراء خارج باريس، ولكن شهد له قبل أن يموت الفنان الكبير بيكاسو، الذى أقام قبل وفاة روسو بعامين مأدبة تكريم دعا إليها جميع الفنانين المحدثين فى باريس للاحتفال به.

فى البساطة تكمن العظمة، وفى العزيمة والإصرار يكمن سر النجاح.. هذا إنسان فنان استخف به المحيط فلم ييأس، وعاندته الظروف فلم يستسلم، وآمن بأن لديه ما يقدمه ففعل، فلم تنطوِ صفحة حياته بموته، بل ظلت أعماله تزين المتاحف الفنية دليلاً على أن المواهب أبداً لا تموت!

Rochen Web Hosting