رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

الشوق إلى المعرفة

قسم : مقالات
السبت, 31 يوليو 2021 09:53

 كثيراً ما أنصح من شبابنا، ومن أبنائنا شباب المحامين، بالتحرُّك فى الحياة، وخوض غمارها، ومعايشة أحداثها، والتمعن فى مجريات الأمور، متسلحين بما أسميه «الشوق إلى المعرفة». هذا الشوق الذى يجب أن يصاحب الحى، فهذه المصاحبة هى التى تدفعه لمعرفة كل ما يمر به أو يراه أو يسمعه أو يقرأه، معرفة تتجاوز الظاهر والمختصر، إلى الإلمام بالأصول والجذور والأبعاد وكل ما يتعلق بذلك من تفاصيل، فهذا هو الذى يُثرى معارف الإنسان، ويزيد رصيده الثقافى بأنواعه، ويؤهله لأن يمارس حياته العامة والمهنية والخاصة مُسلَّحاً بهذا كله، ومدفوعاً لطلب المزيد.

وأركز على ذلك لأبنائى شباب المحامين، حالة كون رسالة المحاماة والقيام بأعبائها يستلزمان ذلك، أن يكون المحامى عريض الثقافة والمعرفة، فضلاً عن العلم القانونى، إضافة إلى أدوات العمل فى المحاماة، وهى تحتاج إلى مزيد من المعارف مع الملكة والموهبة. لا يكفى المحامى أن يعرف، وإنما هو مطالب بأن يستخدم علمه ومعرفته وثقافته وموهبته للإقناع بما يتغياه دفاعاً عن موكله الذى احتمى به، وهذا هو معنى المحاماة وأساس مشروعيتها، والصعب أنه مطالب بإقناع خاصة الخاصة من القضاة المتمرسين العالمين بالقانون واسعى الثقافة والمعرفة عريضى الخبرة والتجربة، وتلك ليست مهمة سهلة مفروشة بالورود، إنما هى صعبة وشاقة يحملها المحامى وحده بلا مساعد ولا مشير ولا ناصح وهو يواجه منصة القضاء العالية.

خطة الدفاع هى بنات فكر وعلم وثقافة وخبرة وفن المحامى، لا تقبل بطبيعتها إملاءً من أحد، حتى ولو كان زميلاً أطول وأعرض باعاً وخبرةً وأقدميةً ومكانةً فى المحاماة.. ومن يعرف طبيعة القضايا وما تثيره من أفكار ووجهات نظر، يعرف أن رئيس المحكمة نفسه وإن ترأس الهيئة إلاّ أنه لا وصاية له على رأى أعضائها، ولهذا فإن التصويت فى المداولات فى الأحكام يبدأ بالأحدث ثم الأقدم ثم الرئيس حتى لا يتأثر عضو المحكمة بأقدمية زميله أو رئاسة رئيس الهيئة!

أما المحامى فهو متخفف من أى قيد شكلى أو إدارى أو موضوعى، هو سيد نفسه وابن أستاذيته هو وعلمه هو.. يحلِّق فوق السحاب، ولا يشده شىء مهما كان إلى الأرض أو إلى سحاب آخر لا يقنعه أو لا يريده.. هذه الحرية هى قوام المحاماة وعدة المحامى، والمحاماة هى الأرض البكر للآراء الحرة والتعبير الفاهم المتمكن.. والمحامى هو طاقة لا قيمة لمضمونها بغير حريتها.. وهذه الحرية محققة للمحامى من كونه لا يخضع لقيد إدارى أو وظيفى أو حتى نقابى.. رزقه على الله، وعلى علمه وكفاءته.

ويجب علينا أن نلاحظ دائماً الفارق بين أشواقنا كآدميين وبين معارفنا.. والأصل أن الأشواق دائماً تسبق المعرفة أى معرفة حتى فى حالات الإعادة والتكرار، وأن وجود الأشواق يستتبع استمرار زيادة المعرفة، وإذا توقفت الأشواق تراجعت المعرفة أو توقفت، وتوقف معها كل شىء مهم فى حياة الإنسان!

والأشواق تطلعات لدينا إلى ما هو فى اعتقادنا أفضل وأرحب وأكثر إمتاعاً وإرضاءً. مع حساب أن الإنسان فى قياس وتصور نظام ونطاق أشواقه يتصور أن آدميتنا تشمل الكون بكل ما فيه الآن وإلى الأزل والأبد. لهذا نحن لدينا شوق شديد لمعرفة أصل الإنسان وأصل الكون ومصير الإنسان ومصير الكون.. وشوقنا لا ينقطع لمعرفة الخالق عزّ وجل، وكيف خلقنا سبحانه وخلق الكون، وعلاقته بنا وعلاقتنا به، وعلاقة ذلك بالخير والشر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة والأرواح والأجساد والملل والنحل والحياة والموت!. هذه الأشواق وما يتعلق بها وما يتفرع عنها تملأ نواحى الوعى والنفس لدى كل آدمى.. متحضراً كان أو همجياً.. مؤمناً أو ملحداً.. عالماً أو جاهلاً.. كبيراً أو صغيراً.. صالحاً أو طالحاً، وتمتد فروعها وأغصانها إلى سائر أجهزتنا النفسية والعاطفية والعقلية، وتتغلغل فى القيم والأخلاق والمعتقدات والخبرات والثقافات والحضارات، وفى سائر ما يفعله الآدميون أو يفكرون فى فعله من صناعة أو حرفة أو مهنة أو فن أو أدب أو علم.

وتتسلق أشواق الآدمى فى طريقها تقدماً وتخلفاً فوق الآمال والأمانى والأحلام والأساطير لإرواء عطشها الذى لا ينقطع، ولتهدئة حاجتها من المعرفة التى لا تهدأ.. ويظن كل جيل من البشر أن ما لديه يكفيه ويُقنعه.. ثم يحس أن أشواقه تمتد إلى أكثر مما عنده، أو أن ما فى يده فعلاً أعجز عن إشباع مطلوبه وتسكين شكه وقلقه وحيرته.. وأن كل ما حصَّله أو وجده: إما قد أخفق فى معرفة حقيقة ما يشتاقه، وإما قد فشل فى الوصول إليه!

لم تقنع أو تشبع أشواق الإنسان إلى المعرفة قط.. ولا يمكن أن تجد ما يقنعها أو يشبعها إلا لأمد.. لأن هذه الأشواق يصحبها دائماً وأبداً اشتهاءات لواقع آخر جديد مأمول أرحب وأفضل وأصدق من أى واقع حاضر. بغضّ النظر عن مبلغ نجاح أو صدق ذلك المأمول.

إن المعرفة اليقينية لكل شىء كان ويكون وسيكون من المستحيلات.. لأن الإنسان جزء فقط من الكون.. وهذا ما لا تسلم به أشواق الآدمى.. لأنه مجرد طاقة تدفع غريزته إلى الفهم والمزيد من الفهم، ولأن المعرفة التقريبية أو الإحصائية، وهى كل ما فى استطاعتنا من الواقع الذى يعرفه أو يمكن أن يعرفه الإنسان، لا تكـفى لإطفاء أشواقه.. لأنها معرفة لا تنفى الغيب والمجهول والجائز والمحتمل والمتصوَّر والمتخيل، ولا ينقطع معها وجود المستقبل وانتظاره وتعلق الآمال والمخاوف به. فلن تنقطع أشواق الآدميين للمعرفة والمزيد من المعرفة قط. ولن يُشْفى غليلهم منها أبداً، ولن يكفوا عن الالتجاء للآمال والأمانى والأحلام والتصورات والمخاوف والأوهام قط.

نعود فنقول إن غريزية أشواقنا لنعرف ما لم نعرف وما لا نعرف، هى مجرد طاقة تسوقنا فى هذا الاتجاه وتُشعرنا بالنقص الذى يشوب واقعنا الحالى أياً كان هذا الواقع.. لأنه دائماً واقع مؤقت مناسب لزمان ومكان يستعد للتغيُّر القليل أو الكثير إلى ما يتصور أنه أفضل، وقد يكون غير ذلك عندما يتحقق، لأنه تغيُّر مبنى على آمال ووعود وتوقعات قد لا تصدق، وما أكذب آمال الإنسان وأحلاها وما أغنى ذخيرته بالوعود!!

Rochen Web Hosting