رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

سمير الإسكندرانى.. وأبى!

قسم : مقالات
الخميس, 19 أغسطس 2021 14:37

من مفارقات القدر العجيبة، أن يرحل «أبى الروحى» الفنان الجميل «سمير الإسكندرانى» في نفس يوم ذكرى رحيل أبى الحقيقى؛ فيتحوّلُ وجعُ اليوم إلى وجعين، وأفقدُ أبى في اليوم ذاته مرتين. في ١٣ أغسطس من كلّ عام أتذكّرُ يومَ رحيل أبى المتصوّف الجميل الذي علّمنى أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ جميع خلق الله. وأن الرحمةَ دلالةُ القوة والبأس، وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا. وفى اليوم ذاته من العام الماضى فقدتُ وفقدت مصرُ «سمير الإسكندرانى» الذي كان بمثابة أبى الروحى.. تعلّمتُ منه أن الإنسانَ كلما نضج فكريًّا وروحيًّا صار أكثر رهافةً وقدرة على الحبِّ والتسامح والعلوّ. الفنان المتصوف الجميل وصاحب إحدى أعظم الحناجر في هذا الكون. «ثعلب المخابرات المصرية» الذي شدا في حبِّ مصر بخمس لغات: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، اليونانية، مازجًا النغمَ الشرقى بالغربى في ضفيرة أنيقة، بحنجرة عزَّ نظيرُها؛ فكان المطربَ والكورالَ والمؤلف الموسيقى والموزّع في آن. كان جبلًا هائلًا من المواهب والعبقريات. وإلى جوار تلك المنح الإلهية، كان فارسًا وطنيًّا يعشقُ مصرَ ويفتديها بالعزيز الأكرم. لهذا رثته المخابراتُ المصرية المحترمة في جريدة «الأهرام» بكلمات خالدة: «.. الفنان سمير الإسكندرانى الذي قدّم لوطنه خدماتٍ جليلةً جعلت منه نموذجًا فريدًا في الجمع بين الفنّ الهادف الذي عرفه به المصريون، وبين البطولة والتضحية من أجل الوطن».

 

كانت وصيتُه أن يُصلَّى عليه في محراب «مسجد وضريح السيدة نفيسة»، رضى الله عنها. فقد كان لنفيسة العلم، كريمة الدارين، حفيدة الرسول، عاشقةِ مصرَ والمصريين مكانٌ ومكانة في قلبه، مثلما في قلوب جموع المصريين. قُبيل الصلاة عليه، وقفتُ أمام نعشه أقرأ الفاتحة وبعضًا من كلماتٍ تطمئنُ بها القلوب، أنهيتُها بسورة «الفجر»: «يا أيتُها النفسُ المطمئنة ارجعى إلى ربِّكِ راضيةً مرضية، فادخلى في عبادى وادخُلى جنتى»، ثم غلبنى البكاءُ؛ فانزويتُ في ركنٍ قصىّ؛ لئلا يرى الناسُ دموعى. فإذا بصوته يشدو: «يا غُصنَ نقَا مُكلّلًا بالذهبِ، أفديكَ من الردى بأمّى وأبى». جفلتُ ونظرتُ إلى نعشِه فإذا الجثمانُ الطيّبُ مُسجى في كفنه الناصع. جاء صوتُه الشجىّ من هاتفى. لأن أغنياتِه هي نغماتُ رنينى الدائم منذ سنواتٍ. أتذكّره الآن جالسًا جوارى على منصّة صالونى الثقافى في «مكتبة مصر الجديدة».. لحظةَ تكريمه وإعلانى اسم النجم المثقف «سمير الإسكندرانى» الأب الروحى للصالون. فإذا بهاتفه يرنُّ بنغمة موسيقية عادية! اندهشتُ وقلتُ له مستنكرةً: (إيه النغمة دى يا أستاذ سمير؟! اسمع نغمتى أنا بقى؟) فإذا بهاتفى يرنُّ بإحدى أغنياته. فضحكَ وقال بصوته العميق الآسر: (يا بختى!).. هكذا كان عذبًا ورقيقًا ومتواضعًا ومُحبًّا للجميع. لحظة إعلانى خبر رحيله للصحف والقنوات، اشتعلت صفحاتى وهاتفى بعشرات الآلاف من الرسائل والتعليقات في مظاهرة حُبٍّ ممن عشقوه مطربًا فريدًا، وبطلا قوميًّا عرّض نفسه للتهلكة وتحدّى جهاز الموساد الصهيونى من أجل مصر، وهو بعدُ طالبٌ في كلية الفنون الجميلة. حاولتْ إسرائيلُ تجنيدَه جاسوسًا على مصر مقابل ثروة ضخمة من المال والمغانم، فداسها بحذائه وأخبر الرئيسَ جمال عبدالناصر. وصدر قرارُ جهاز المخابرات المصرية بأن يتجاوب مع الموساد ويجاريه؛ لكى نُحبِط أعمال الصهاينة. وبالفعل، استطاع «سمير الإسكندرانى» بذكائه وثقافته ووطنيته أن يصفع الموسادَ صفعةً تاريخية لا تُنسى. فكرّمه الرئيسُ جمال في ستينيات القرن الماضى، ومنحه لقب: «ثعلب المخابرات المصرية». وصنع بهذا نموذجًا للفنان البطل الذي لم يكتفِ بالتعبير عن حبه لمصر بالغناء بصوته الذهب، بل أقرنَ الشدوَ الألماسىّ بالفعل الوطنى الخطِر وهو شابٌّ في مقتبل العمر لم يُكمل العشرين.

أناشدُ الرئيسَ العظيم «عبدالفتاح السيسى» تكريم اسمه بوسام وطنىّ يليقُ بتاريخه المخابراتى الرفيع، وإطلاق اسم «سمير الإسكندرانى» على أحد شوارع القاهرة، وعلى أحد مدرجات «كلية الفنون الجميلة» التي تخرّج فيها ودرَّس، على غرار ما فعل من تكريم لفنان مصر الكوميديان المحبوب الراحل «سمير غانم».

وأجدّد شكرى للواءَ المحترم والصديق المثقف: «قدرى الزهيرى»، الذي رافقَ أبى العظيم «سمير الإسكندرانى» على مدار أعوام مرضه الأخيرة يومًا بيوم طوال رحلة علاجه الشاقّة، فذلّل له الصعابَ وهوّن عليه الألم والمشقّة، وكان له نِعمَ الصديق والأخ الكريم.

وأقولُ لأبى وأبى: انعما بالفردوس، وناما ملء جفونكما عن شواردها، فأنتما خالدان بما صنعتما، ورحم الله جميع موتى العالمين. «الدينُ لله والوطنُ لمن يحبون الوطن».

twitter:@fatimaNaoot

 

Rochen Web Hosting