رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

حياة كريمة (٤) الصناعة والاستثمار

قسم : مقالات
الجمعة, 20 أغسطس 2021 13:12

عبرتُ عن تقديرى لمبادرة «حياة كريمة» - منذ انطلاقها - لما تشير إليه من توجه جديد للدولة نحو الاهتمام بالتنمية الريفية ورفع كفاءة البنية التحتية والمرافق العامة، خاصة فى الصعيد، حيث مؤشرات التنمية البشرية الأسوأ على المستوى القومى.

 

وقد طرحت فى مقالات سابقة تساؤلات حول آليات تحديد أولويات هذا البرنامج الضخم، كما اقترحت إشراك المنظمات الأهلية القريبة من الناس فى الإشراف على تنفيذ المشروعات وقياس أثرها وتحقيق المشاركة الشعبية المطلوبة.

واليوم.. أتناول بالتعليق جانبًا آخر من المبادرة وهو «التمكين الاقتصادى»، بمعنى ما يمكن أن تساهم به «حياة كريمة» فى توفير الظروف والمحفزات التى تشجع أهل الريف على الإنتاج والاستثمار فى مشروعات متوسطة وصغيرة تفتح لهم سبل الارتفاع بالدخول وبمستويات المعيشة والترقى مستقبلًا. وفى تقديرى أن هذا الجانب هو الأهم على الإطلاق، لأنه يحول المبادرة من برنامج قومى لتوفير الخدمات والمرافق إلى قاطرة للتنمية الريفية المستدامة.

ولكن إن كانت مبادرة «حياة كريمة» قد تضمنت محور التمكين الاقتصادى ضمن محاورها الرئيسية - بجانب البنية التحتية والتعليم والصحة وغيرها - فإننى لا أظن أنه محور واضح المعالم، محدد الأهداف، وقابل للقياس على نحو ما هو الحال بالنسبة للمشروعات الهندسية والإنشائية التى تتضمنها المبادرة.

التصريحات الرسمية تشير إلى أن المبادرة تستهدف ضخ مليار ونصف المليار جنيه لتمويل المشروعات الإنتاجية خلال المرحلة الأولى، وأن هذا التمويل سيتم من خلال جهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وأن المستهدف تشغيل الشباب ومحدودى الدخل، وأن هناك تفكيرًا فى إقامة مجمع حرفى على مساحة فدان بكل قرية لإنشاء ورش ومعارض للحرف التقليدية، وأن مزيدًا من الجهد سيبذل لتحقيق الشمول المالى.

كل هذا يعبر عن توجه جيد وعن نية لتنمية الريف.. ولكن أخشى أن يكون فى الواقع تكرارًا لذات النمط التقليدى فى التنمية الاقتصادية الريفية الذى لم يحقق نتائج مرضية طوال العقود الماضية. نفس الحديث عن المشروعات الصغيرة، وعن تشجيع الشباب، وعن صناعات تقليدية وحرفية، وعن مساحات تخصص لصغار المنتجين، وعن جهاز معنىّ بتنمية المشروعات، وعن شباك واحد لتسهيل كل شىء.

هذا كله لا يخاطب المشاكل المزمنة للاستثمار فى الريف: ندرة المناطق الصناعية المرفقة ترفيقًا كاملا، وصعوبة الحصول على التراخيص، والمسافات البعيدة لمواقع الإنتاج عن التجمعات السكنية، ونقص المعلومات المطلوبة لاتخاذ القرار الاستثمارى، وغياب الآليات الداعمة لربط منتجى الريف بسلاسل إنتاج الشركات الكبرى، واستئثار أصحاب النفوذ بالكثير من الفرص المتاحة (كما جرى مثلًا مع توفير الأراضى الصناعية المجانية فى الماضى).

«حياة كريمة» تفتح فرصًا إنتاجيه غير مسبوقة. كل ما سوف يحتاجه هذا البرنامج التنموى العملاق من مواد بناء ومؤن وتجهيزات ومواصلات وأماكن تخزين وسكن للعاملين وعمالة مدربة وغير مدربة.. كل هذا يمكن أن يكون مصدرًا لتشجيع الاستثمار الحقيقى والمنتج، وفرصة العمر لصغار المستثمرين كى ينشئوا مشروعات إنتاجية صغيرة ومتوسطة.

ولكن هذا كله لن يحدث بمفرده ولا بتلقائية، بل يحتاج من الحكومة أن تطلق بوعى وبوضوح وبشفافية مسارًا موازيًا لمبادرة «حياة كريمة» يعنى بخلق فرص الإنتاج والاستثمار التى تتيحها مشروعات المبادرة نفسها، مسارًا يوفر أراضى صناعية حقيقية على نحو ما اقترحه اتحاد الصناعات المصرية حينما طلب تخصيص منطقة صناعية جديدة بجوار المراكز والقرى الكبرى لصغار المستثمرين (وليس فدانًا متواضعا للصناعات الحرفية)، وآليات لإنهاء التراخيص والموافقات.. والأهم من كل هذا معلومات، ثم معلومات، ثم معلومات عن الفرص التى تتيحها الحكومة من خلال مناقصات محلية ووقت كافٍ لكى يستعد صغار المنتجين لها. ولا أتوقف عند إتاحة التمويل، لاعتقادى أنه صار أقل المشاكل فى الوقت الحالى بعد إطلاق مبادرات عديدة للشمول المالى، وبعد ظهور أدوات تمويل غير مصرفية جديدة، وبعد بدء انتشار التكنولوجيا المالية.. ولكن إتاحة التمويل دون فرص إنتاج حقيقية ومجزية لا تؤدى لتنمية مستدامة، بل لوقوع صغار المستثمرين فى دائرة المديونية الدائمة وما هو أسوأ.

«حياة كريمة» برنامج تنموى عملاق، وهذا وحده مكسب كبير. ولكن الأفضل والأجدى أن يتحول إلى مناسبة لإحداث تحول حقيقى فى الاستثمار والإنتاج فى الريف، ولخلق فرص عمل مستدامة ودخول محترمة، لأن هذا هو سبيل تحرير المجتمع من الفقر وإتاحة الفرصة للشباب كى يبنوا لأنفسهم ولأبنائهم حياة كريمة مستمرة.

 

Rochen Web Hosting