رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

سألتُ «نجيب محفوظ»: هل تعرفُ اسمَ طاعنك؟

قسم : مقالات
الجمعة, 03 سبتمبر 2021 10:59

 

 

قبل سنوات، كنتُ أنا والصديق الروائى الكبير «يوسف القعيد» ضيفين على الإعلامية «فضيلة سويسى» فى برنامج «مثير للجدل» بقناة أبوظبى، نُشكّل فريقَ دفاع عن كنوز «نجيب محفوظ» الأدبية ضدّ متطرف يرى أن روايات صاحب نوبل يجب أن تُصادر، وفق ثقافاته المحدودة التى تمنعه من ولوج عوالم الأدب الثرية!. بالطبع، نسيتُ اسم ذلك الشخص الذى كفّر «نجيب محفوظ»، مثلما نسينا اسم الشابين التعيسين اللذين طعناه فى عنقه بخنجر عام ١٩٩٥ وتسببا فى إعاقات حركية لازمته حتى رحل عن عالمنا فى مثل هذه الأيام عام ٢٠٠٦. لا نعرفُ اسم قاتل «المتنبى»، ولا قاتل «السهروردى»، ولا صالب «الحلاج»، ولا قاتل «فرج فودة»، ولا قناص «سميرة موسى»، ولا ساحِل الفيلسوفة «هيباتيا»، ولا شانق «عمر المختار»، ونسينا أسماء الذين كفّروا ابن عربى وابن الفارض وابن رشد وابن المقفع ولسان الدين الخطيب ونصر حامد أبوزيد وطه حسين.. وغيرهم الكثير ممن أسقطهم التاريخُ من حساباته ليُفسِح صفحاته المضيئة لتخليد أسماء اللامعين فى هذا العالم. لهذا قال المختارُ مقولتَه الخالدة: «سيكون عمرى أطول من عمر شانقى».. وهذا ما كان.

حين التقيتُ بالخالد «نجيب محفوظ» فى ڤيلا الدكتور «يحيى الرخاوى» بحى المقطم عام ٢٠٠٣، همستُ له بسؤال: «هل تذكر اسم طاعنيك يا أستاذ؟»، فابتسم وحرك رأسَه دلالة النفى، ثم همس لى: «لكننى سامحتهما!» هكذا العمالقةُ أمام الصغار. يغفرون لأنهم يعلمون أن الصغار لا يعلمون ماذا يفعلون.

أما لقائى الأخير به فكان قبل رحيله بعام فى فندق «شبرد» الذى يُطلُّ على نيل مصر. قاعةٌ ضوؤها الخافتُ رفيقٌ بشبكية رجل جاوز التسعين، بينما فرادةُ عقله قد أثبتت أنها تحيا خارج الزمن. تحدث معنا بمحبة كعادته مع حوارييه. أخذنى الإنصاتُ، وفجأة تذكّرتُ أننى على كثرة ما أقتنى من فرائد نجيب محفوظ، لم أحظَ بعدُ بتوقيع منه على أى منها؟!.. نهضتُ من مقعدى وخرجت مسرعةً من القاعة وسط دهشة الجميع وركضتُ إلى فندق «سميراميس» المواجه، حيث المكتبة التى تضم معظم أعمال الكاتب الكبير. لم أتحيّر كثيرًا أمام الاختيارات، واختارت أصابعى رأسًا «الطريق».. الرواية الأقرب إلى قلبى، حيث «البحث عن هوية»، «البحث عن حُلم». عدتُ إلى صالون الأستاذ ركضًا، وكان الأستاذُ ينتظرنى بقلمه لكى يوقّع باسمه على «الطريق»: «نجيب محفوظ». بعد حادثة الخنجر، أصبح يكتب ببطء شديد وبخط كبير الحجم. بعدما كتب اسمَه حاولتُ سحب الرواية من بين يديه وأنا أشعر بالخجل لما سببته له من جهد دقائقَ طوالًا كأنها الدهرُ، لكنه رفع عينيه نحوى ونظر مباشرة فى عينى قائلا: «إوعى توقعى اسمَك دون تاريخ أبدًا». وكان درسًا لم أخلفه أبدًا كلما وقّعت أحد كتبى لقارئ. وصار ذلك التوقيعُ المرتعش اليوم أحبّ توقيع لدى المصريين، والعرب. دسستُ كتابى/ الكنز، فى حقيبتى ثم أخذنى الصمتُ الطويل. أستمعُ له وأستمتعُ بخفة ظلّه وقفشاته السياسية وإلماحاته الذكية التى تشير إلى نصاعة وعى لم تهزمه السنوات. هذا لقائى الأخير به. أما لقائى الأول به فكان فى كازينو «قصر النيل». كان عمرى تسع سنوات. أشارت إليه أمى قائلة: «اللى قاعد هناك ده هو الكاتب الكبير نجيب محفوظ.. واللى حواليه اسمهم الحرافيش»، شببتُ على أطراف أصابعى لكى أراه بوضوح وأتأمل تلك «الحَسَنَة» الكبيرة جوار أنفه. يسمونها «زبيبة». أحاول أن أربط بين الحسنة الكبيرة وبين الكاتب الكبير. كان هذا فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، قبل عقد من حصوله على نوبل. أدفسُ وجهى فى كأس الكاساتا بالفراولة والڤانيليا، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدمى كى أحدّق فى الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل هذه الزبيبة الكبيرة؟ عند المساء، أفحصُ وجهى فى مرآة غرفتى، فلا أجد أى زبيبة. هذا يعنى أننى أبدًا لن أكون كاتبة كبيرة!.

اليوم، أتمّ «نجيب محفوظ» عامه الخامس عشر بعيدًا عن صخب العالم، بعدما انحنى له العالمُ احترامًا حين حصد لمصر وللعرب نوبل الآداب عام ١٩٨٨. لم ينسه أحدٌ، بينما نسينا منذ اللحظة الأولى أولئك الذين على عقولهم أقفالُها ممن أهانوا اسمَه وتراثه الرفيع، وأفتوا بكفره وزندقته.

كل سنة وأنت نجيبٌ محفوظٌ فى ذاكرة العالم. كل سنة وأنت أكثر وجودًا وحياة ممن أخفقوا فى قراءتك وإدراك قيمتك.

«الدينُ لله، والوطنُ لمن يُثرى عقولَ الوطن».

twitter:@fatimaNaoot

 

Rochen Web Hosting