رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

مصر وفلسطين

قسم : مقالات
الخميس, 23 سبتمبر 2021 12:34

 

 

لم يترك «برنارد لويس» كبيرة ولا صغيرة فى مصر- سنة١٩٦٩- إلا واقترب منها فى التقرير الذى نشره عقب عودته من مصر؛ الوضع الاقتصادى والمادى للمصريين، ولماذا لم يشعر المواطنون بأن هناك أزمة اقتصادية، رغم هزيمة، يونيو ٦٧، توقف مطولًا أمام أوضاع اليهود فى مصر وكذلك أحوال الأقباط؛ التركيزعلى الأقليات فى المجتمع، من ناحية موقعهم السياسى والقانونى، فضلًا عن قدراتهم الاقتصادية، ركن أساسى فى الثقافة الغربية عموما، ولدى كبار المؤرخين والمفكرين، خاصة إذا كان المؤرخ لديه موقف سياسى وعلى صلة وطيدة بالأجهزة الرسمية بالدولة التى ينتمى إليها، فى إطار تناوله لأوضاع اليهود فى مصر، كان مهتمًا بإبراز أنه لا يوجد موقف معاد أو عنصرى تجاه اليهود تحديدا ولا حتى تجاه الإسرائيليين، وأن الإجراءات التى اتخذها عبد الناصر نحو الأثرياء (التأميمات) شملت الجميع، مسلمين ومسيحيين ويهودا.

 

حديثه عن المشاعر والأفكار المصرية نحو اليهود، كان فى الواقع تمهيدًا للمشروع الذى جاء من أجله إلى مصر فى تلك السنة، وهو إمكانية إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، وقيام سلام بينهما، هو كان مقتنعا ويريد أن يحدث هذا السلام.

 

يوظف لويس معلوماته التاريخية والسياسية جيدا لطرح فكرته، حيث يذهب إلى العلاقات بين مصر والسودان، طوال المفاوضات بين مصر وبريطانيا للجلاء عن مصر، كانت هناك عقبة كبرى تعطل الجلاء وهى السودان، كانت بريطانيا تريد الفض تماما بين البلدين مصر والسودان، وقد حاولت ذلك مبكرًا، وقيامها بطرد القوات المصرية من السودان نهائيا سنة ١٨٩٨، كان خطوة كبيرة نحو هذا الفض، لكن القوى الوطنية المصرية أصرت على وحدة مصر والسودان، خاصة مع مفاوضات الجلاء ومع تمسك المفاوض المصرى بأن مصير مصر والسودان معا، كان رد بريطانيا عمليا (لا جلاء تام). المفاوضات التى انتهت بالفشل، ثم قيام انتفاضة سنة ١٩٣٥، التى أصيب فيها التلميذ جمال عبد الناصر حسين، كانت حكومة حزب العمال على استعداد للجلاء عن مصر، إذا ترك المصريون ملف السودان للإنجليز تتفاهم فيه مع السودانيين، ثم ازداد الأمر تعقيدًا فى زمن الملك فاروق، حيث صار اسمه «ملك مصر والسودان»، ونقل عن الزعيم مصطفى النحاس (باشا) قوله «تقطع يمينى ولا يفصل السودان عن مصر»، غير أنه فى حكومة الوفد الأخيرة، كان محمد صلاح الدين وزير الخارجية مقتنعًا بأن يترك أمر السودان للأشقاء السودانيين ليقرروا هم مصيرهم، لكن جاء حريق القاهرة فى يناير ٥٢، وأقال الملك فاروق الحكومة وتم تجميد هدا الملف، حتى قامت ثورة يوليو وحسم هذا الأمر، لعب فيه صلاح سالم دورًا مهما، ونالت مصر استقلالها وأيضا استقل السودان، وبقيت العلاقات الأخوية والودية بين شعبى وادى النيل وبين البلدين الشقيقين.

 

يعتبر برنارد لويس أن ما تحقق بالنسبة للسودان إنجاز تاريخى يحسب لكل من محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وعنده أن مثل ذلك يجب أن يحدث بين مصر وفلسطين.

 

 

يقول لويس- صفحة ٥١٩ من الترجمة العربية: «تم التخلى عن مطلب الوحدة بين مصر والسودان، الذى كان قائما لفترة طويلة، والمدهش أنه لم يكن هناك أى اعتراض على ذلك فى مصر»، يضيف برنارد لويس، على الفور قائلًا: «إن مصلحة مصر فى السودان أقدم وأكثر واقعية من مصلحتها فى فلسطين».

 

الحق أن هذه الثرثرة الغريبة حول المفاضلة فى علاقات مصر والسودان من جانب، وعلاقتها بالقضية الفلسطينية من جانب آخر، انتقلت بشكل ما إلى البعض فى مصر والسودان، وكذلك بعض الأشقاء العرب، وسمعناه فى أوقات وظروف متباينة، وحدث أن التقيت ذات مرة وزير خارجية السودان د.محمد عثمان إسماعيل، وكانت العلاقات السياسية بين القاهرة والخرطوم متوترة عقب محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى الطريق إلى أديس أبابا، كان اللقاء فى مجلة المصور، زمن أستاذنا الراحل الكبير مكرم محمد أحمد؛ كان الرجل صريحا وراح يعدد أوجه العتاب على الرئيس مبارك، مازحته قائلًا: الرجل مر بالقرب منكم فحاولتم اغتياله، فرد بتلقائية شديدة قائلا «مش إحنا، ده واحد بس، كان نائبا لرئيس الجمهورية، ومشى»، كان اعترافا رسميا وصريحًا، خاصةً أنه ذكر اسم ذلك النائب، ثم سألته مباشرة: ماذا تأخذون على مصر؟، رد بالحرف «اهتمام مصر بفلسطين طغى على اهتمامها بالسودان، رغم كل أهمية السودان لكم».

 

الواقع أن ارتباط مصر والسودان، مسألة حياة للبلدين، فرضتها الجغرافيا وحقائق التاريخ، لكن مصر لا تفاضل فى علاقاتها العربية، السودان جوار وارتباط جغرافى، فضلًا عن نهر النيل الذى ربط البلدين معًا، فلسطين كذلك تمثل جوارا جغرافيا، لذا فإن الأمن القومى والوطنى المصرى يرتبط ويتأثر بما يجرى فى فلسطين، بعض الوقائع منذ سنة ٢٠٠٩، حتى يومنا هذا تؤكد ذلك.

 

يكمل لويس فكرته بالقول «ليس من المستبعد أن يظهر نظام أو حاكم مصرى يكون على استعداد لأن يوقف خسائره فى فلسطين بنفس أسلوب نجيب وعبد الناصر فى السودان»، وحين يحدث ذلك، من المؤكد سيجد معارضة فى مصر، لكنها سوف تكون بلا تأثير كبير، يقول هو «أشك فى أنها يمكن أن تكون مصدر إزعاج كبير لحكومة مصرية قوية وقادرة». ما يطرحه لويس هنا عن ابتعاد مصر نهائيا عن القضية الفلسطينية، لم يكن جديدًا، بل طرح رسميًا عدة مراتٍ على كبار المسؤولين، قبل أكثر من عشرين عامًا وقتها، على النحو التالى.:

 

فى سنة ١٩٤٧، قرر محمود فهمى النقراشى (باشا) رئيس الوزراء ضرورة السفر إلى نيويورك لعرض القضية المصرية على الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن وصلت المباحثات مع بريطانيا إلى طريق مسدود، لم تكن السلطات البريطانية تحب النقراشى بسبب دوره فى ثورة ١٩، كانوا حكموا عليه بالإعدام وقتها، ثم عفا عنه الزعيم سعد زغلول، وكان النقراشى يدرك أن قوة بريطانيا فى تراجع بعد الحرب العالمية الثانية، وهكذا راحت مصر تجرب الباب السوفيتى والأمريكى. فى موسكو التقى مسؤول السفارة المصرية مع مسؤول الشرق الأوسط بالخارجية السوفيتية، وطلب مساندة بلاده لموقف مصر فى الأمم المتحدة، وكان الرد الذى سمعه «حاولوا تمرير مشروع التقسيم فى فلسطين حين صدوره، أو على الأقل، لا تعترضوا عليه، كى نتمكن من مساعدتكم»، شرح المسؤول المصرى، مدى الارتباط بين مصر وفلسطين، وخطورة ما يحدث فى فلسطين. تقرير المسؤول المصرى، نشرته دار الوثائق المصرية سنة ٢٠١٤، ضمن كتاب يضم مجموعة من وثائق الخارجية المصرية، حول قضية فلسطين. فى الوقت نفسه التقى النقراشى باشا مع السفير الأمريكى فى القاهرة للغرض نفسه، فسمع منه كلاما أخطر، إذ طلب عدم الاعتراض على مشروع التقسيم- لم يكن القرار صدر بعد- وأن تساعد مصر على توطين الفلسطينيين الذين سيغادرون بلدهم فى بعض مناطق العراق، وذلك بأن يتدخل رئيس وزراء مصر لدى نورى السعيد رئيس الوزراء العراقى، وأن تقوم مصر بتوطين بعض الفلسطينيين بها، فى صحراء سيناء أو بعض مناطق الصعيد ومنحهم الجنسية، رفض النقراشى الأمر برمته، رفضا مطلقا وحذر مما يجرى فى فلسطين وخطورة ذلك على بلدان المنطقة، وحذر السفير الأمريكى مما يفكرو فيه بالنسبة للعراق. تفاصيل اللقاء فى مذكرات النقراشى، التى نشرتها أخبار اليوم، سنة ٤٩، وأعادت دار الكتب نشرها، سنة ٢٠١٧، (الغريب أن الإرهابيين من جماعة حسن البنا، بعد أن اغتالوا النقراشى، زعموا أنه عميل صهيونى).

 

فى الفترة ذاتها وحول الموضوع نفسه، تصل الملك فاروق رسالة فى شكل نصيحة من صديقه الملك المعزول أحمد زوغو، وكان اتخذ من الإسكندرية مقرا له ولأعوانه، بعد أن عزلته ثورة شيوعية، وكان وثيق الصلات مع بريطانيا والولايات المتحدة، نصحه زوغو بعدم الاعتراض على قرار تقسيم فلسطين، والاعتراف بالدولة التى ستقوم هناك لليهود، وأن يتجنب خوض صراع معها، وطبقا لمذكرات سكرتير زوغو، التى ترجمت ونشرت بالأردن، قال له «إسرائيل دولة أقامتها فرنسا وبريطانيا وأمريكا، ولن يسمحوا لك أبدا بتدميرها»، وقال له كلاما آخر، كثيرا ومطولا، على صلة بهذا الأمر. ثم تطورت الأمور على النحو المعروف تاريخيًا.

ويمكننا القول إن عبد الناصر سمع كلاما مشابها من أطراف دولية عديدة، وبطرق مختلفة، سمعه من الاتحاد السوفيتى، أكثر من مرة، فى مناسبتين مختلفتين، سنة ٦٦ بعد نجاح اتفاق المبادئ فى طشقند، بين الهند وباكستان لإحلال السلام بينهما برعاية سوفيتية، والثانية فى مايو ٦٧ مع اشتعال الأزمة مع إسرائيل. عرض سنة ٦٦ ذكر تفاصيله محمد حسنين هيكل فى كتابه «حديث المبادرة»، وعرض مايو ٦٧ ورد لدى أكثر من مصدر روسى، أبرزهم «بريماكوف»، فى مذكراته، وكان وقتها مسؤول جهاز المخابرات السوفيتية فى السفارة بالقاهرة «كى جى بى»؛ وكان يعمل وقتها بغطاء صحفى، مراسل صحيفة «برافدا» فى القاهرة، كانت الصحيفة لسان الحزب الشيوعى السوفيتى، ثم صار فيما بعد رئيس وزراء روسيا.

 

لم يكن مشروع برنارد لويس جديدا، سوى أنه هذه المرة يأتى على وقع احتلال سيناء.

والحديث ممتد.

 

 

Rochen Web Hosting