رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

مكافحةُ الغلاء.. بالاستغناءِ وعدم الهدر

قسم : مقالات
الإثنين, 08 نوفمبر 2021 12:54

( عاوزين تسيطروا على الأسعار؟ الحاجة اللى تِغلا متشتروهاش. الموضوع بسيط) هكذا أعلن الرئيس/ عبدالفتاح السيسى فى معرض حديثه عن غلاء الأسعار، موضحًا أن انخفاض الحركة الشرائية لسلعة ما يستوجب بالضرورة انخفاض سعرها، وهو الحل الأمثل لمواجهة جشَع بعض التجار. وهذا حقٌّ لأن وراء كلّ تاجر جشِع مُستهلكًا متواطئًا معه، مستعدًا لإشباع جشع التاجر بالشراء والاستهلاك والهدر. حقيقةٌ اقتصادية تاريخية وعالمية معروفة .

 

وذكّرتنى هذه الحكمةُ بحكاية واقعية حدثت فى الأرجنتين. فى أحد الأيام ذهب مواطنٌ أرجنتينى إلى السوبر ماركت ليشترى بعض احتياجاته، فلاحظ أن سعر طبق البيض مرتفعٌ عن الأمس. سأل البائع؛ فأجابه بأن شركات الدواجن رفعت سعر البيض بمقدار واحد بيزو! أخذ المواطن الأرجنتينى علبة البيض وأعادها إلى مكانها، قائلًا إن هناك ما يعوضه عن البيض. حذا حذوَه جميعُ المواطنين وقاطعوا البيضَ فى ذلك اليوم. ماذا كانت النتائج؟ فى اليوم التالى: جاء مندوبو الشركات لتعبئة محلات السوبر ماركت كالعادة بإنتاج اليوم الجديد من البيض؛ فرفض بعضُ الباعة أن يأخذوا أى جديد لأن إنتاج الأمس لم يُبَع، والبعضُ الآخر طلب تبديل إنتاج اليوم بإنتاج الأمس الراكد. حدثت خسائرُ هائلة لشركات البيض فى ذلك اليوم، لكنها تحملت ظنًّا منها أن المقاطعة ستنتهى خلال أسبوع، وبعدها سيعود الناسُ للشراء الاعتيادى بالسعر الجديد، فتُعوَّض الخسائر. لكن الأمر لم يختلف. مازال الشعبُ الأرجنتينى مُجمعًا على موقفه الحاسم من مقاطعة سلعة البيض. ومرّ أسبوعان دون بيع، والشركاتُ تخسر. شركاتُ إنتاج البيض تدفع الأموال لإطعام الدجاج الذى يُنتج البيض، والإنتاجُ لا يتوقف ويتراكم المخزونُ لأن الدجاج مازال ينتج البيض، والاستهلاك «صفر» لأن حركة الشراء متوقفة. وتراكمت الخسائرُ على تلك الشركات وتضاعفت. فاجتمع أصحابُ شركات الدواجن اجتماعًا طارئًا لدراسة المشكلة، وقرروا إعادة البيض إلى سعره السابق. لكن الشعب الأرجنتينى استمر على موقفه من مقاطعة شراء البيض. وجُنَّ جنون مسؤولى تلك الشركات التى كادت تعلن إفلاسها. فاجتمع التجار مرة أخرى وقرروا ما يلى: ١- تقديم اعتذار رسمى للشعب الأرجنتينى يُبثُّ عبر جميع وسائل الإعلام. ٢- تخفيض سعر البيض عن سعره السابق إلى ربع القيمة السابقة .

إنها ثقافة شعوب تقرر حل المشاكل من جذورها، دون شكوى ودون تبرُّم. إنها ثقافة «الاستغناء» حين يعمُّ الغلاءُ، وثقافة «عدم الهَدر» حين تضيقُ ذاتُ اليد .

دائمًا ما أتأملُ حباتِ القمح وأنا أنثرُها فى شرفتى للطيور الطليقة فى سماء الله وأقول لنفسى: ما أعظمَ هذه الحبة الذهبية الأنيقة! كلُّ حبة قمح أو أرز أو ثمرة مما خلق الله هى ثروةٌ وقطعةٌ فنية فريدة من الألماس السماوى المدهش، لا يجوز التعامل معها باستهانة، أو هدرها فى صناديق القمامة .

وهذا ما أراد أن يثبته فنانٌ صينىٌّ اسمه «يانج يكسين» حين قرّر لفتَ الانتباه إلى «آفة هدر الطعام». قام الفنان بنحت نصف كيلوجرام من الذهب الخالص، (ثمنه يربو على الثلاثين ألف دولار أمريكى)، على شكل ١٠٠٠ حبّة من الأرز. ثم بثّ لنفسه على منصة التواصل الاجتماعى مقطعَ فيديو وهو يُلقى بالحبوب الذهبية فى مصارف المجارى فى مدينة شنغهاى، ونهر هوانجبو الصينى، وصناديق القمامة. واندهش الناسُ من جنون الرجل. ثم جاء تصريح الفنان لصحيفة South China Morning قائلًا إن إهدار الأشياء العادية لا يثير اهتمام الناس، لهذا لجأ إلى إهدار الذهب المنحوت على هيئة حبوب الأرز، حتى يلمسَ الناسُ مدى خطورة الهدر الاستهلاكى، عسى تلك التجربة المكلفة أن تُغيّر فى أسلوب تفكير الشعب الصينى وسلوكه. خاتمًا قوله بأن «الأرز أغلى وأنفس من الذهب». وأتفقُ معه فى الرأى. لأن الإنسان بوسعه صناعة عقد من الذهب المرصّع بالجواهر، ولكنه غير قادر على خلق حبّة واحدة من القمح النفيس .

تقول الإحصاءاتُ الدولية وتقاريرُ المراقبين الاقتصاديين إن الدول الأكثر فقرًا هى ذاتُها الدولُ الأكثرُ هدرًا! بينما الدول الغنية ذات متوسط الدخل المرتفع للمواطنين لا تعرفُ الهدر. وتلك حقيقة يعرفها كلُّ مَن سافر إلى دول الغرب، حيث يذهب المواطنُ هناك إلى السوبر ماركت فيشترى ثمرة برتقال واحدة، أو عنقود عنب وشريحة بطيخ دون خجل من نظرة الناس، أو سخرية الكاشير وهو يرى الفاتورة شحيحةً تضم ثمرة أو ثمرتين. لأن الجميع مثله ينهجون السلوك المحترم نفسه، ولا يشترون إلا ما يحتاجون إليه، وفقط. قاوِموا الغلاء بالاستغناء. وقاتِلوا الجشع بالوعى الرفيع بقيمة المنح السماوية المُهداة لنا، وعدم إهانتها بالهدر. «الدينُ لله والوطن لمَن يحافظ على الوطن ».

twitter:@fatimaNaoot

 

Rochen Web Hosting