رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

مبادرة روجرز بين عبدالناصر والسادات

قسم : مقالات
الإثنين, 22 نوفمبر 2021 20:25

فى كتابه «البحث عن الذات»، قدم الرئيس السادات رواية عن سر قبول الرئيس عبدالناصر مبادرة روجرز، مفاده أنه قبلها يأسًا، بالأحرى «قرفًا» من سوء تعامل القادة السوفييت معه ورفضهم تزويد الجيش المصرى بما يطلبه من أسلحة، لذا قرر ناصر- وهو فى الكرملين باجتماع مع بريجنيف- أنه سيقبل المبادرة، وطبقًا لقول السادات: «جُنَّ جنون بريجنيف»، وأنه بعد أن عاد عبدالناصر إلى القاهرة قال لنائبه: «السوفييت يا أنور حالة ميؤوس منها تمامًا»، أما قبل السفر فقد قال له- طبقًا للكتاب ذاته: «اسمع يا أنور.. أوراق اللعبة كلها فى أيدى أمريكا، شئنا أم أبينا، ولقد آن الأوان عشان نتكلم وندخّل أمريكا فى العملية».

 

المفارقة التاريخية أن الرئيس السادات، حين كان نائبًا، وبعد أن سمع ما أشار إليه عبدالناصر عن يأسه من السوفييت، جمع «اللجنة السياسية» للاتحاد الاشتراكى لمناقشة مبادرة روجرز، وقد أوصت اللجنة برفض المبادرة، وحين كان فى استقبال الرئيس بالمطار عائدًا من رحلة موسكو، أبلغه بتوصية الاتحاد الاشتراكى، لكنه فوجئ بقرار الرئيس قبولها.

رواية الرئيس السادات هذه تعنى أن كل سياساته فى العلاقات مع الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة وعملية السلام مع إسرائيل لم تكن سوى استكمال لما بدأه سلفه، وأنه، كما قال عن نفسه كثيرًا، على خطى عبدالناصر، ولكن بطريقته هو.

الحملات الإعلامية القاسية التى شنّها السادات على الاتحاد السوفييتى فتحت الباب واسعًا لاتهام علاقتنا بهم، واتهامهم بشتى التهم، بدءًا من أنهم قاموا بتوريطنا فى حرب يونيو ٦٧، وانتهاء بأنهم لم يقدموا لنا المساعدات العسكرية الكافية، وامتد الاتهام إلى الرئيس عبدالناصر نفسه بأنه أخطأ بإقامة علاقات مع السوفييت، إلى الحد الذى دفع بعض المثقفين والصحفيين إلى القول إن السوفييت احتلوا مصر زمن عبدالناصر، ومَن لا يريد اتهام عبدالناصر ذهب إلى أنه كان ضحية لهم، بل سمعت بأذنى أحد كبار الصحفيين يجزم بأن السوفييت سمّموا عبدالناصر وهو فى رحلة العلاج الأخيرة هناك، بسم يظهر مفعوله بعد شهور. بعض الكتابات الصحفية أثارت هذا الأمر، وحيث إن جميع الأطراف باتوا فى ذمة الله؛ الاتحاد السوفييتى نفسه تفكك منذ ثلاثين عامًا، لكن تاريخ هذا الوطن فى ذمتنا وذمة الأجيال القادمة، لذا يجب أن نتوقف مُطوَّلًا عند ذلك كله. تصورات الرئيس السادات بنى عليها سياساته وخطواته فى الحرب مع إسرائيل بانتصار أكتوبر العظيم، ثم بالسلام معها واسترداد سيناء، وقطع علاقاته تمامًا مع السوفييت واقتصر على الولايات المتحدة.

محاضر اجتماع الرئيس عبدالناصر بالقادة السوفييت تكشف جانبًا من التفاصيل، اجتماعات زيارة ١٩٦٨، كان السادات مشاركًا بها، كان رئيسًا لمجلس الأمة، كما شارك بها الفريق عبدالمنعم رياض، وفى سنة ٧٠، لم يكن السادات مشاركًا فى الزيارة. (تكشف المحاضر كيف كان عبدالناصر يقدر معاونيه ويعطيهم مساحات واسعة فى الاجتماعات لطرح ما لديهم، وكان يتحدث عنهم بود واحترام).

فى المساعدات العسكرية، كان الرئيس عبدالناصر يذكر دائمًا للسوفييت الفارق فى التسليح والتجهيزات العسكرية بين الجيشين المصرى والإسرائيلى، شرح بالتفصيل الدقيق وبصراحة شديدة فارق القوة والقدرة بين الطائرات الفانتوم لدى إسرائيل، والمسرات الفرنسية والميج ١٧، التى لدينا، رد عليه ألكسى كوسيجين: «سوف نعطيك الميج ٢١»، ببساطة كان يذكر لهم أن ما يواجهه الآخرون أقوى وأشد فعالية، لكن المشكلة التى كانوا يواجهون عبدالناصر بها هى، طبقًا لقول «بريجنيف»، ضعف الكادر العسكرى لدينا، وتلك مرحلة مختلفة وتعبير مخفف. عقب حرب ٦٧، قال أحدهم: «إننا نعطى العرب الأسلحة فيتركونها للإسرائيليين!». كانت القوات السورية قد انسحبت من الجولان وتركوا مخازن الأسلحة والذخيرة كاملة، دون تدمير، وتم تجاوز ذلك مع الوقت ودخلنا فى «ضعف الكادر»، هو تعبير حزبى (شيوعى). هذا القول هو ما دفع الرئيس إلى تجنيد المتعلمين وإعادة تدريب الطيارين والاهتمام بالدفاع الجوى. فى إحدى الجلسات فاجأ عبدالمنعم رياض الحضور بأن كل ما كان لدينا سنة ٦٧ هو تسعة مطارات حربية، بينما كان لدى إسرائيل (٥٤) مطارًا، الاهتمام بالتدريب وتكوين عنصر مقاتل عصرى يستوعب أحدث الأسلحة هو ما جعل عبدالناصر يزور الوحدات العسكرية ويلتقى بالمقاتلين وصغار الضباط، بمختلف المواقع والأسلحة، ولا يكتفى فقط بلقاء القادة الكبار. فى مذكرات الفريق محمد أحمد صادق الكثير عن هذا الجانب، كان الفريق صادق قد شغل منصب رئيس الأركان عقب استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض. واحدة من المرات التى شعر فيها بالإهانة حينما سمع من قائد سوفييتى كبير فى القوات الجوية أن بعض الطيارين لديهم خوف من الطيران، طبعًا راح يدافع عن الطيار المصرى، وأنهم كانوا فى ٦٧ ضحايا قيادة أخطأت التقدير وأساءت القرار، وربما يفسر لنا ذلك زيارته لكلية الطيران فى بلبيس واستقباله فى بيته بعض الطيارين الشبان، حيث كان يريد رفع روحهم المعنوية.

الواقع أن محاضر الاجتماعات تكشف مدى الإكبار والتقدير للرئيس عبدالناصر لدى بريجنيف وسائر القادة، ومدى الشجاعة الأدبية والمناورة الذكية لدى هذا الرجل. ورغم كل الظروف كان يُشعرهم أن ما يطالبهم به حق وطنى، وما كان يطلبه كان كثيرًا وكبيرًا.

السوفييت كانوا صرحاء فى أنهم يمدوننا بأسلحة دفاعية فى تلك المرحلة، كان لدى الرئيس هاجس أن إسرائيل يمكن أن تعاود مهاجمتنا فى أى لحظة بشكل مكثف، كان قلقًا من أن يضربوا ميناء الإسكندرية بما ينتهى عمليًّا بعزل مصر، فلا يمكنها الاستيراد أو التصدير، وأُجيب إلى هذه المطالب، وإلى أن يتم تدريب وتجهيز طيارين جدد، طلب طائرات منهم بأطقمها وأجابوه، رغم أن ذلك كان مقلقًا لهم، وقد يورطهم فى مواجهة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة. فى زيارة سنة ٧٠، كان ضمن قائمة ما طلبه عبدالناصر «كبارى للتعدية»، وهذا يعنى أن فكرة العبور كانت لديه، ورَدُّوا عليه إيجابيًّا فيها. وافقوا كذلك على تسليم مصر الصواريخ المحمولة كتفًا، وهذه لم تكن قد سُلمت لأى بلد فى المنظومة الاشتراكية.

أما أن أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة، فقد جاءت كالتالى، وليس بهذه الصياغة: شكا بريجنيف إلى عبدالناصر أن إسرائيل لا تحترم قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢، وأنها رغم كافة ضغوط الكتلة الشرقية فى مجلس الأمن، وجهود الاتحاد السوفييتى، فإنها لم تنفذ القرار، كان رد عبدالناصر أن الولايات المتحدة وحدها هى التى يمكن أن تضغط على إسرائيل، وكان رأيه أيضًا أن إسرائيل حققت انتصارًا عسكريًّا، لكنها لم تَنَلْ الانتصار السياسى الذى تحتاج إليه، وهو أن يُسلم العرب بمطالبها كاملة ويتعاملوا على هذا الأساس، ومن هنا جاء قراره فى الكرملين بأنه سيقبل مبادرة روجرز، دون أى تحفظات، بكل هدوء راح كوسيجين، رئيس الوزراء- شديد الاحترام لعبدالناصر- يطرح التساؤل: هل الأجدى قبول المبادرة الأمريكية أم المبادرة السوفييتية؟، ورأى الرئيس المصرى أنه بقبول مبادرة روجرز يضع إسرائيل وأمريكا فى ركن واحد، وهو واثق أن «روجرز» لن ينجح ولن تقبل إسرائيل مبادرته، وكان رأيه أن أمريكا تقدمت بهذا المشروع ردًّا على ما جاء فى خطابه بعيد العمال- مايو ٧٠- من أنه على الرئيس نيكسون أن يثبت رغبة جادّة فى وقف العدوان، وأن يضغط على إسرائيل. شرح هو ظروف ظهور المبادرة، ونكتشف أن الولايات المتحدة عرضت فى فبراير عودة التعامل والعلاقات مع مصر، لكنه لم يتحمس، وطلب هو من القادة السوفييت الاهتمام بالتفكير معه فيما بعد «انهيار مبادرة روجرز».

قناعة عبدالناصر بأن الولايات المتحدة، عمليًّا، لن تمارس ضغطًا فعليًّا على إسرائيل من أجل العرب. عنده أن القوة وحدها، فى ميدان المعركة، هى التى ستضغط على إسرائيل وتجبرها على الانسحاب من الأراضى المحتلة، وأنه فى نهاية الأمر، وبعد استعمال القوة، لابد أن يحل السلام مع إسرائيل. السلام عنده الانسحاب من كافة الأراضى المحتلة سنة ٦٧، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بالعودة ثانية أو بالتعويض وفق ما يريدونه.

كان قبول المبادرة يعطى مصر فسحة من الوقت لاستكمال منظومة الدفاع الجوى وحائط الصواريخ واستكمال تأمين بعض المواقع الحيوية فى الداخل.

الحق أن معاناة عبدالناصر كانت أكبر من ذلك.

 

Rochen Web Hosting