رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

عبدالحليم.. ملك الإحساس وسلطان المشاعر

قسم : مقالات
الجمعة, 17 ديسمبر 2021 10:10

التقينا أكثر من مرة فى بيته فى الزمالك، كانت اللقاءات للأسف الشديد فى سنوات مرضه الأخيرة .. كان ينام على سريره منهكا شاحبا وحين قدموا له الطعام كان قطعا من الفاكهة المسلوقة بعدها جاء شخص لكى يعطيه مجموعة من الحقن مرة واحدة فى الوريد كان يتألم .. بعد أن انتهت طقوس المرض والمعاناة بدأت أقرأ عليه قصائدى كنت قد أصدرت ديوانى الجديد «حبيبتى لا ترحلى» وحقق انتشارا واسعا .. بعد أن انتهيت من قراءة القصائد قلت له هناك قصائد لا تصلح للغناء وقال اسمع منها شيئا وقرأت عليه قصيدة «عندما ننتظر القطار» وقال: هذه القصيدة هى التى تُغنى وتركت له القصيدة وتصافحنا ومضيت ..

 

 

> كان هذا هو لقائى الأول مع عبدالحليم وتركت قصيدتى ولم اعرف عنها شيئا.. كنا نتحدث فى التليفون واخبرنى انه أرسل القصيدة إلى الموسيقار محمد عبدالوهاب وبدأت أتحدث مع موسيقار الأجيال عنها وطلب تعديل بعض الكلمات مع نهاية القصيدة.. من وقت لآخر كنا نتحدث وكان يستعد لتقديم قصيدة نزار قبانى «قارئة الفنجان» مع محمد الموجى وقد قررنا أن يغنى قصيدتى بعد قارئة الفنجان..

> لاشك أن عبدالحليم كان أسطورة عصره ولم يكن صوتا قويا ولم يكن منافسا عند ظهوره لأصوات مثل أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش ولكنه اختار منطقة أخرى هى الإحساس .. وقد ساعده على ذلك قصة مرضه الطويل وحالة الشحوب التى كان يبدو عليها ولهذا كان الإحساس هو سفير العندليب إلى قلوب الملايين.. لقد صدق الناس عبدالحليم حين غنى «صافينى مرة» «وظلموه» «وفى يوم فى شهر فى سنة» «وفوق الشوك مشانى زمانى» «ورسالة من تحت الماء» و«لا تكذبى» صدق الملايين إحساس عبدالحليم وللإنصاف هو لم يكذب عليهم كان يغنى ويتألم وهو صادق فى ألمه.. وحين أحب كان صوتا للحب الصادق وحتى حين تغنى بثورة يوليو كان مدافعا عن حلم شعب وإرادة امة..

> لا شك أن عبدالحليم لم يقلد أحدا ولم يكن منافسا لقمم الغناء كوكب الشرق وعبدالوهاب وكوكبة أخرى من النجوم الكبار فى ساحة الغناء .. كان عبدالحليم يمثل حاله خاصة فى صوته وشحوبه وقصص معاناته .. وقبل هذا كله فإن العندليب أقام واحدة من أجمل وارق ممالك الإحساس فى تاريخ الغناء العربى .. رغم حبى الشديد لأم كلثوم وعلاقتى مع عبدالوهاب فإننى عشت ومازلت مع عبدالحليم أجمل ذكريات شبابنا .. لم يكن صوتا جميلا حلق فى سماء حياتنا وأحببنا معه ولكنه كان عالما من الإحساس والمشاعر التى جمعت الملايين حولها حبا وإعجابا .. لقد نجح حليم فى أن يعلن استقلال مملكته ولم يقلد أحدا فقد كان متفردا فى كل شيء ..

> ظلت قصيدتى ما بين عبدالوهاب وعبدالحليم وذات يوم كنت أتحدث مع عبدالوهاب وطلب نهاية مختلفة للقصيدة لأنها نهاية حزينة وهو يريد أن تكون نهاية سعيدة واستجبت لطلب عبدالوهاب وكتبت نهاية سعيدة وقدمتها للموسيقار الكبير وحين قلت لعبدالحليم ما حدث قال غاضبا انا غير مقتنع بهذه النهاية السعيدة .. كانت النهاية الأصلية أن الحبيبة سافرت ولم ترجع بينما ظل حبيبها ينتظرها على محطة القطار .. وقال حليم ساعتها وكانت آخر مكالمة بيننا هناك أشياء كثيرة فى حياتنا تذهب ولا ترجع العمر لا يرجع والحب لا يرجع والصحة لا ترجع انا مقتنع بنهاية القصيدة دون تغيير وإذا أصر الأستاذ عبدالوهاب على التغيير فسوف أعطيها لكى يلحنها محمد الموجى لم استطع أن أناقش عبدالحليم واعتبرت ذلك خلافا بينه وبين عبدالوهاب يحسمه لقاء بينهما ولكنى تعجبت من رد فعل حليم وكيف يأخذ قصيدة من الأستاذ لكى يلحنها موسيقار آخر يومها شعرت أن عبدالحليم يعيش ظروفا صحية صعبه خاصة انه كان يستعد لكى يغنى قارئة الفنجان آخر ما غنى..

> زرت عبدالحليم مرات قليلة وكنت أتألم كثيرا من معاناته واذكر يوما اننى زرته وكانت حالته الصحية أفضل وتحدثنا كثيرا فى قضايا الفن والغناء وقمت يومها أودعه وفوجئت به يقوم من سريره ممسكا بيدى ويوصلنى إلى الأسانسير ويقف يودعنى حتى أغلق الأسانسير أبوابه .. رغم نجومية العندليب وبريقه فإنه كان إنسانا بسيطا فى حياته ومع الناس لا ادعى أننى كنت من أصدقاء عبدالحليم فقد كنت شابا فى أول الطريق وكان حليم نجما كبيرا إلا انه بقى فى خيالى كل سنوات عمرى .. فقد عاش جيلى مع حليم أجمل ذكريات الحب والشباب ومازلت اعتقد أن مشوار حليم كان شيئا متفردا وانه نسخة وحيدة فى الصوت والأداء وعبقرية الإحساس وهى الكنز الحقيقى فى مملكة العندليب ..

> إن عبدالحليم مازال بيننا حتى الآن بصوته وصدقه وإحساسه .. وقلت دائما إن ممالك الإحساس لا يسقطها زمن لأنها اقوى من الزمن ولهذا بقى العندليب فى وجدان عشاقه ومحبيه فقد شاركهم العمر والحب والإحساس .. لم أكن من أصدقاء حليم المقربين ولكن حين ظهرت كشاعر يغنى للحب وجد غنائى صدى لدى هذا الصوت العبقرى الذى جمع الملايين حول صوته وإحساسه .. إن مملكة حليم بقيت لأنها قامت على ثلاثية من الصدق والإحساس والوفاء نحن أمام نموذج فى الصدق والإحساس والوفاء الشديد لفنه .. كان ينزف ورغم ذلك يغنى ويتألم وجعل من الألم إبداعا جميلا .. كنت أتحدث مع عبدالوهاب بعد رحيل عبدالحليم ويومها قال لى إن حليم كتلة من المشاعر لن تعوض أنه لا يغنى بصوته إنه يغنى بكيانه..

> لا أنكر أننى تمنيت لو عرفت عبدالحليم فترة وزمانا أطول ولكن للأسف الشديد عرفته فى ساعة غروب حزينة وان بقى يغنى وسوف يغنى بعد ألف عام.. رغم إن حكايتى مع العندليب كانت قصيرة لم تتجاوز قصيدة بخل عليه العمر لكى يغنيها فإننى اعتذرت لكثير من الأصوات الجميلة التى طلبت ذلك لأننى مازلت أرى أن لدينا نسخة فريدة ووحيدة اسمها عبدالحليم حافظ .. قلت إن عبدالحليم لم يكن مقلدا أو منافسا لأحد ولكنه استطاع أن يقيم لنفسه مملكة لا تشبه أحدا واختار زمانه وجمهوره وقرر أن يغزو قلوب الناس بالحب والإحساس والصدق ولهذا عاش وسوف يبقى زمنا طويلا..

> لقد استطاع حتى الآن أن يحتل ساحة الغناء بجدارة وأن يبقى صوته يحلق فى قلوب الناس لأنه لا أحد مثله.. كان من حظ عبدالحليم أن يظهر فى زمن العمالقة بجانب أم كلثوم وعبدالوهاب وأن يحقق وجودا فى ظل هذه الرموز والآن كلما سمعت حليم أشعر أننى انتقلت الى زمانه لأنه قادر دائما أن يحتويك بأنبل المشاعر.. إن أسطورة عبدالحليم لم تأت من فراغ كان صاحب موهبة نادرة وأخلص كثيراً لفنه ودفع له ثمنا غاليا من عمره وصحته وشبابه وهذه هى ملحمة عبدالحليم وسر نجاحاته..

 

ويبقى الشعر

قالَتْ: سَأَرْجِعُ ذَاتَ يَوْمٍ

عِنْدَمَا يَأْتِى الرَّبِيعْ ..

وَجَلَسَتْ أَنْظُرُ نَحْوَهَا

كَالطِّفْلِ يَبْكِى غُرْبَةَ الأَبَوَيْنِ

كَالأَمَلِ الوَدِيعْ

تَتَمَزَّقُ الأَيَّامُ فِى قَلْبِى

وَيَصْفَعُنِى الصَّقِيعْ

كَان الخَرِيفُ يَمُدُّ أَطْيَافَ الظِّلَالْ

وَالشَّمْسِ خَلْفَ الأُفْقِ تَخْنُقُهَا الرَّوَابِى .. وَالجِبَالْ

وَنَسَائِمُ الصَّيْفِ العَجُوزِ

تَدبُّ حَيِّرِى .. فِى السَّمَاءْ

وَأَصَابِعِ الأَيَّامِ تَلَدَّغُنَا

وَيُفَزِّعُنَا الشِّتَاءْ

وَالنَّاسُ خَلْفَ البَابِ تَنْتَظِرُ القِطَارْ..

وَالسَّاعَةُ الحمَقِى تَدُقُّ فَتَخْتَفِى

فِى الَّليْلِ أَطْيَافُ النَّهَارْ

وَاليَأْسِ فَوْقَ مَقَاعِدِ الأَحْزَانِ

يَدْعُونِي، فَأَسْرعُ بِالفِرَارْ

< < <

الآنَ قَدْ جَاءَ الرَّحِيلْ..

وَأَخَذْتُ أَسْأَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَوْلَنَا

وَنَظَرْتُ لِلصَّمْتِ الحَزِينِ

لعَلَنِي، أَجِدَّ الجَوَابْ

أَتُرَى يَعُودُ الطَّيْرُ مِنْ بَعْدِ اغْتِرَابْ؟

وَتَصَافَحَتْ بَيْنَ الدُّمُوعِ عُيُونُنَا

وَمَدَّدتْ قَلِّبِى لِلسَّمَاءْ

لمْ يُبْقَ شَيْءَ غَيْرَ دُخَانٍ يَسِيرُ عَلَى الفَضَاءْ

وَنَظْرَتِ لِلدُّخَانِ شَيْءٌ مِنْ بَقَايَا يُعَزِّيَنِى

وَقَدْ عِزُّ اللِّقَاءْ..

< < <

وَرَجَعَتْ وَحَدِى فِى الطَّرِيقْ

اليَأْسُ فَوْقَ مَقَاعِدِ الأَحْزَانِ

يَدْعُونِى إِلَى اللَّحْنِ الحَزِينْ

وَذَهَبْتِ أَنْتِ وَعَشَّتْ وَحَدِّيٌّ .. كَالسِّجِّينْ

هَذِى سِنِينَ العُمْرِ ضَاعَتْ

وَاِنْتَهَى حُلْمٌ السِّنِينْ

قَدْ قُلْتِ:

سَوْفَ أَعُودُ يَوْمًا عِنْدَمَا يَأْتِى الرَّبِيعْ

وَأُتِيَ الرَّبِيعُ وَبُعْدُهُ كَمْ جَاءَ لِلدُّنْيَا .. رَبِيعْ

وَاللَّيْلُ يَمْضِى .. وَالنَّهَارْ

فِى كُلِّ يَوْمٍ أَبْعَثُ الآمَالَ فِى قَلْبِي

فَأَنْتَظِرُ القِطَارْ ..

النَّاسُ عَادَتْ .. وَالرَّبِيعُ أَتَى

وَذَاقَ القَلْبَ يَأسْ الاِنْتِظَارْ

أَتَرَى نَسِيَتِ حبَيْبَتِي؟.

أَمْ أَنَّ تَذْكِرَةَ القِطَارِ تَمَزَّقَتْ وَطُوِيَتِ فِيهَا .. قِصَّتِي؟

يَا لَيْتَنِى قَبْلَ الرَّحِيلِ تَرَكْتُ عِنْدَكِ سَاعَتِى

فَلَقَدْ ذَهَبَتِ حُبَيْبَتِى وَنَسِيتِ، مِيعَادَ القِطَارْ..!

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Rochen Web Hosting