رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

إياكم ونفاد الرصيد

قسم : مقالات
الجمعة, 04 فبراير 2022 10:38

 

عندما احتفلنا بدخولنا القرن الواحد والعشرين، وبعد أن أطلقنا الألعاب النارية المجنونة المبهرة بألوانها والمفزعة بأصواتها وقفزاتها اللولبية وكراتها متفاوتة الأحجام وسط السماء، وأضوائها التى أعادت نور الشمس لتلك الليلة، ونيرانها التى رفعت درجة حرارة الطقس وانعكست على الوجوه والأجساد التى تراقصت ساعات وساعات على عزف المشاهير تحت سفح الهرم ووسط الميادين المشهورة فى عواصم العالم، لم نتصور أو نحلم أو نتوقع أننا ندخل عالم الخزائن الحديدية، ولا أننا سنحتفظ داخلها بكل ما نملك ونشعر، ولا أن تتغير العملات التى نشترى بها ونبيع، ويصبح حلم كل منا الحفاظ على رصيده.

وهكذا دخلنا فى عالم لم نتوقعه ولم تتنبأ به العرافات وهن يقرأن ملامح العام الجديد وما سيأتى بعده، فقد كان كل الحديث عن الحب والمال وزواج المشاهير وحفلات زفاف أسطورية وانفصال بعضهم وعمليات إرهابية وسقوط أنظمة واغتيال زعماء، وأطفال يولدون ويستولون على كراسى العرش، وآخرين يهجرون القصور إلى حياة بسيطة بلا مراسم ولا طقوس ملكية ولا تيجان من الماس النادر تتوارثها العائلات بكل فخر، وفيضانات وبراكين تدفن قرى ومدناً، وأسعار تقفز للسماء، ومجاعات وأسرى ومعسكرات للاجئين تتجمد داخلها الأطفال من قسوة البرد والعالم وتنفد معها أرصدة الأمهات من حليب داخل الصدور ودموع فى العيون، جاءت التنبؤات لتلمس مشاعر الجميع وتداعب أحلامه وأمنياته، إلا أنها لم تقترب من ملامح هذا العصر الذى بدأ بتلك الليلة الصاخبة.

وبدأنا بعدها مباشرة فى رسم ملامح العصر ومعها ملامحنا بكل تأكيد ليتحول العالم كله إلى أرقام وأرصدة وخزائن تضم كل شىء حتى القلوب وقصص الحب والنجاح والعلم والخرافات والسحر الأسود، تغيرت الملامح والمعانى وحروف الكلمات وتشوهت لغتنا العربية التى كانت تقف وسط جميع اللغات فى المقدمة لغناها وجمالها ورقة تعابيرها وفخامتها ولأنها قبل كل ذلك هى (لغة القرآن).

وكأن التشوه هو سمة العصر وأبرز ملامحه، فقد أصبح من الصعب فهم الكلمات والتعبيرات والرسومات ومعانى ورسائل الأعمال الدرامية والأفلام بكل اللغات، فكان لزاماً أن نقول إن رصيد الجمال والإبداع والغنى الفنى واللغوى قد نفد أو دخل إلى عمق الخزائن الحديدية ولا يعرف طريقاً للخروج والعودة لنا.

رصيدنا من الحب نفد ودخل بكل تفصيلاته الجميلة إلى خزانة الهاتف المحمول وتحول التعبير عنه إلى حروف لا تتشابك أبداً، فهى متنافرة ومتباعدة مختلطة بالأرقام وعلى الحبيب أن يستوعب ويفهم ويدرك ماذا يريد الآخر، أحضان الأبناء للأمهات نفد رصيدها وتحولت إلى رسومات جوفاء، قلوب حمراء وكفوف أيدٍ تشير وتربت على القلب الكبير، وزهور صناعية باردة بلا رائحة أو ملمس أو حتى أشواك.

وحتى أرصدتنا وأموالنا ومدخرات الأبناء التى كانت تضم أحلام المستقبل والبيت الصغير والسيارة نفدت بعد أن تجمدت داخل خزانة البورصة والشركات المشبوهة والأخرى التى تسمى نفسها (تداول الأوراق المالية) وتزعم أن لديها خبراء استثمار وضعنا كل شىء لديهم لتكون المفاجأة (نفاد الرصيد).

وهكذا أصبحت أهم سمة من سمات العصر هذه الجملة، فهى الأشهر والأكثر تداولاً، حيث تتجول وتعربد وترقص وتقفز وتتمايل عبر الأثير لتخبر الصغار والكبار والشيوخ أن رصيدهم قد نفد بعد أن أودعوه لديهم ليكون الأمل الأخير فى سماع صوت البعيد الغريب الذى يقتلهم الشوق له أو للاستنجاد بعربة إسعاف قد تمنحه الحياة أو تعفيه من الآلام وتكون بديلاً للمشاعر الإنسانية التى نفد رصيدنا منها وقد كنا نعتمد عليها فى كل خطواتنا.

فهيا بنا نقاوم ونحطم تلك الخزائن ونلقى بها بعيداً عنا لنعود من جديد للحياة.. ولكم أقول أحبتى وأصدقائى: (إياكم ونفاد الرصيد).

Rochen Web Hosting