رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

التفكير فى المسألة المائية

قسم : مقالات
الخميس, 10 فبراير 2022 12:42

الأزمات الكبرى لا تسقط بالتقادم، ولا بمحاولات تخطى تخومها بالبحث عن تفكير جديد؛ وكان ذلك هو ما فعله آبى أحمد مؤخرا عندما نصح مصر والسودان بالبحث عن تفكير جديد فى قضية مياه النيل. بالنسبة لنا فإن أصول المسائل لا يمكن إغفالها، وسواء كانت مصر هبة النيل، أو أن مصر هى هبة المصريين، فإن هناك أخطارا باتت حالة على النهر التاريخى بعد أزمان كثيرة من الاطمئنان على أن مياها كثيرة سوف تمضى بلا انقطاع من المنبع إلى المصب. وببساطة استيقظنا ذات صباح منذ عقد ، على أن ما تم الاستقرار عليه طوال التاريخ لم يبق كما كان، وان هناك من يريد أن يغير شرائع وقوانين ظلت مستقرة منذ عقود طويلة جاءت فى أعوام 1902 و1929 و1959 لكى تنظم ما جرى عليه العرف واستقرت عليه التقاليد قبل عدة آلاف من السنين. وإذا كان الطلب الإثيوبى هو البحث عن تفكير جديد، فقد جرى التعامل مع الموقف بمنهجين إضافيين لما طرحناه من حقوق (تاريخية): أولهما أن القضية قانونية، فتمت العودة إلى الاتفاقيات والمعاهدات، والبحث فى الكتب عن المعاهدات العالمية الخاصة بالحقوق فى الأنهار. وثانيهما المنهج الاقتصادى، أو ما يعبر عنه (بالمصالح الاقتصادية) بدا كما لو كان طريقا سريعا للخروج بسرعة من طريق مسدود مع دول حوض النيل حيث يمكن إلقاء اللوم على غياب التفاعل الاقتصادى مع الدول المعنية. وبسرعة كانت صفقة اللحوم مع إثيوبيا أو الصفقات المشابهة التى تم استدعاؤها من الذاكرة. وجرى المنطق أنه لو كان لدينا ما يكفى من الصفقات والمعونات والاهتمام بدول حوض النيل لما جرى الذى جرى، وكانت العلاقات سمنا على عسل حسب ما يحصل عليه الجميع من فوائد وعوائد. ولم يكن بعيدا عن هذه الحجج، والصفقات منهج يجرى فى العلاقات الدولية يقول إنه كلما تكاثفت علاقات الاعتماد المتبادل بين الدول فإنه لا يصير من تقاليدها الصدام ونشوب الأزمات، وإنما يصبح طريقها إلى التعامل مع ما تختلف فيه التوافق والمفاوضات حتى التوصل إلى اتفاق. وبقدر ما كان اللوم موجها فى المنهج التاريخى، والآخر القانونى، إلى الآخرين من دول حوض النيل فإن المنهج الاقتصادى كان ممتلئا حتى آخره بتقريع الذات ونقدها لأنها لم تقم بما كان واجبا القيام به وهو عقد الصفقات السخية مع الدول الشقيقة منذ زمن بعيد.

 

 

والحقيقة أن المشكلة لم تكن قائمة بالنسبة لهذه المناهج -على أهميتها البالغة- إلا فى عدم كفاية أى منها لمناسبة مقتضى الحال الذى بات معقدا للغاية، خاصة بعد اجتماعات متتالية بعضها كان ثنائيا بين مصر وإثيوبيا، وفى وقت آخر باتت ثلاثية فى وجود السودان والتى جرى فى ظلها وضع الاتفاق الإطارى للمفاوضات، وجرى ذلك فى ظل مفاوضات تحت مظلة الاتحاد الأفريقى أو مجلس الأمن. لاحظ هنا أنه أيا كان المنطق المطروح تاريخيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو خارجيا فإنه يوجد غياب كامل للطرف الآخر الذى لا يعود له تاريخ أو حجج قانونية أو حتى وجهة نظر فى المصالح الاقتصادية المشتركة أو مدى علاقته بالدول الغربية أو الشرقية المختلفة. ولا كان معلوما أبدا كيف تطورت هذه الدول فى التاريخ المعاصر من الناحية السياسية والاقتصادية والسكانية حتى باتت هويات تظهر أحيانا معادية للمنطق والحق، ولا يوجد من ناحيتها مبادرات اقتصادية تذكر أو تقييم للأوضاع الدولية والإقليمية يشكل تحالفاتها العالمية والإقليمية. ما هو مطروح علينا هو أن نفكر تفكيرا (جديدا) بإدارة علاقات دون اتفاق، وإذا كان هناك اتفاق فهو استرشادى يتقلب ويتشقلب حسب التطورات والأهواء السياسية ليس فقط فى علاقات الأطراف ببعضها البعض، وإنما حسب صعود وهبوط توازنات الحالة الداخلية الإثيوبية. وقبل وقوع الحرب الأهلية الإثيوبية الأخيرة، فإن السياسة الإثيوبية إزاء قضية مياه النيل كانت قائمة على كسب أنصار من خلال رؤية للمصالح الإثيوبية تقوم على الحصول على كل شيء، والانفراد بالقرارات الخاصة بالسد. الآن فإن نصيحة رئيس الوزراء الإثيوبى لمصر والسودان بالعودة إلى التفكير مرة أخرى، لا يقابلها دولة إثيوبية لديها قدرات التفكير الجماعى فى الأمر.

تفكير الدولة يختلف كثيرا عندما يجرى عليها ظروف استثنائية، ومن الجائز أن إعادة اللحمة إلى إثيوبيا مرة أخرى تعطيها الفرصة فيما يجعل هذه اللحمة قوية ومستدامة. رؤية مصر الدائمة إزاء المسألة النيلية تقوم على ترسيخ أسس جديدة للعلاقات بين دولتى الممر والمصب (مصر والسودان) ودول المنبع، لا تنحصر فى تقسيم المياه، وإنما تقوم على أسس تنموية تكفل بناء الدولة واستمرارها. بعبارة أخرى يجب التأكيد على عدم اختزال العلاقات مع دول الحوض كله فى قضية تقسيم مياه النهر، أو تبنى مبدأ المشاركة بدلا من الشراكة فى التعامل مع هذه الدول، بشكل يقلص من الأهمية والزخم الذى تحظى بهما العلاقات مع هذه الدول والتى يمكن أن تنتج تداعيات إيجابية عديدة على المصالح المصرية. والواقع أن الحجة المصرية ضمن هذا الإطار سوف تضيف إلى الأطر السياسية والقانونية، حيث تشير التقديرات إلى أن نحو 1650 مليار متر مكعب تسقط سنويا على دول المنبع لا يصل لمصر منها إلا 55.5 مليار متر مكعب فقط، ويزداد التمسك المصرى بهذه الحصة مع وجود واقع أن مصر تواجه شحا مائيا، حيث يعيش معظم سكان مصر على مياه النيل. إثيوبيا عليها أن تفكر فى بناء دولة وهى تفكر فى التعامل مع النيل، هكذا كان حال مصر قبل سبعة آلاف عام، ويمكن لإثيوبيا أن تحصل على ذلك خلال السبعة آلاف عام القادمة.

Rochen Web Hosting