رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

فلانتين الفراعنة!

قسم : مقالات
الثلاثاء, 15 فبراير 2022 15:01

لم يكن أجدادنا الفراعنة بارعين فقط فى البناء والتعمير والتخطيط وشتى مجالات الحضارة من علوم وفنون وآداب، لكنهم كانوا أيضا أساتذة فى الحب والعشق والهوى!، والحقيقة أن المتأمل فيما بقى من آثار الفراعنة من مقابر ومعابد قد يسىء الظن بهم، معتقدا أنهم ـ أى الفراعنة ـ شعب عاش فقط للعبادة والتأمل والعمل للآخرة، وهذا بالطبع غير حقيقى لأن الفراعنة لم يتمسكوا بالحياة الآخرة والخلود إلا بعد أن ذاقوا حلاوة الدنيا ونعيمها، وتمتعوا بكل ملذات الحياة ومنها الوقوع فى الحب، وتجربة لوعة العشق. ولعل من أسمى ما تخلف لنا عن مفهومهم عن الحب هو قولهم إن «الجماد فقط هو ما لا يعرف الحب»، ثم عادوا وأكدوا هذا المعنى بقولهم إن «الحب يصيب كل من له قلب ينبض».

 

كان الفراعنة العظام هم أول من ربط بين الحب والقلب، وجعلوه مسؤولا عن الحب وعن العشق، وللأسف لا نعرف السر وراء هذا الربط بين القلب وبين الحب عند الفراعنة، ولكن ما نعرفه هو أن البشرية كلها وإلى وقتنا هذا سارت وراء الفراعنة وانتهجت منهجهم، وما زلنا نؤمن بأن القلب هو المسؤول الأول عن الحب، بل نقول إن القلب إذا أحب أخضع العقل وغيبه!، ومن أروع ما تركه لنا أجدادنا الفراعنة من أشعار غزلية وقصائد حب مجموعة من شقافات الفخار محفوظة بالمتحف المصرى بالتحرير من عصر الدولة الحديثة، سجلت عليها مجموعة قصائد غزلية تؤكد لنا أن أجدادنا الفراعنة كانوا أساتذة فى الحب، عرفوا كيف يعبرون بأرق الكلمات وأعذبها عن مشاعرهم تجاه الحبيب. ومن هذه الأشعار أغنية تقول: «قلبى لا يتحمل فراقك، يا ليتنى كنت خدامتك لا أفارقك، ليتنى كنت غاسل ملابسك لكى أشم عبيرك ورائحتك الذكية، ليتنى كنت خاتما فى إصبعك لكى أظل ملامسا لجلدك!». بالطبع سيندهش من يقرأ هذه الكلمات العذبة الرقيقة وسيتساءل: هل هؤلاء هم أنفسهم الفراعنة بناة الأهرامات والمعابد، وأساتذة نحت الحجارة الصلدة فى العالم القديم؟.. والإجابة نعم هم أنفسهم أصحاب تلك الحضارة التى تطوى الأزمان ولا تندثر.

لو لم يعرف الفراعنة الحب، وهو أسمى المشاعر الإنسانية، ما كانوا ليهتموا بحياة أخرى أبدية بعد الموت مع من يحبون. لقد كان أسمى مطالبهم هو أن يذهبوا إلى نعيم الإياروا (الجنة) مع حبيباتهم. ولقد كانت المرأة الفرعونية تصف حبيبها بالفارس القوى مثل الثور الجسور الذى سيحملها بين ذراعيه غير عابئ بأى خطر. وكان الحبيب المتيم بعشق محبوبته يقول: «إن حبيبتى على شاطئ النهر المقابل، يفصل بيننا ماء النهر وتمساح على الشاطئ الرملى يترقب!، لكنى سأخترق الماء وأسير على الفيضان غير عابئ بوجود التمساح، وقلبى جسور على المياه التى صارت تحت قدمى كالأرض اليابسة، إن حب حبيبتى يبعث فىّ القوة، ويعمل لى رقية (حجاب) للتغلب على الماء. قلبى يهفو للقاء حبيبتى ولن يمنعنى تمساح فى الماء عن الوصول إلى حبيبتى، صدرى ينشرح برؤياها وذراعاى يفتحان ليضماها، وقلبى يرقص فى مكانه عندما تأتى إلى محبوبتى!». هذا مثال للحب الذى تهون أمامه الصعاب، بل من الممكن أن نعتبره لونا من ألوان الحب الذى قد يقود صاحبه إلى التهلكة، فلم تكن المشكلة أمام جدنا «الحبِّيب؛ بتشديد وكسر الباء» الفرعونى هى اختراق النهر والسباحة من شاطئ إلى الآخر، وهى مسافة قد تتعدى سبعمائة متر؛ أضف إلى ذلك مدى صعوبة السباحة فى النهر!، ولكن المشكلة أيضا كانت فى وجود تمساح يتربص بالحبيب الولهان!، كانت مشاعر الحب بالطبع أقوى من كل الصعاب ولذلك كان جدنا الفرعونى الحبيب يقول: «قلبى يخفق كلما رأيت حبيبتى»، وفى الحقيقة أن الكلمة التى استخدمها جدنا هى يقفز ولكن الأستاذ ماكس موللر الألمانى الذى ترجم هذا البيت الغزلى لم يستوعب كلمة «يقفز» أو «يفط»، ولذلك ترجمها بيخفق!.

وقد يتبادر أيضا سؤال عن مشاعر المحبوبة وكيف عبرت جدتنا الفرعونية عن حبها، ولحسن الحظ ترك لنا الشاعر المجهول الاسم هذا البيت الشعرى على لسان المحبوبة تقول: «يا إلهى!، كم جميل هو حبيبى؛ يجعلنى أعشق الذهاب إلى البحيرة لأستحم على مرأى منه لكى أريه جمالى وأنا فى ثوبى الشفاف المبلل، المصنوع من أغلى أنواع الكتان الملكى، ليتنى أنزل معك الماء وأخرج منه ثانية وبين أصابعى سمكة حمراء جميلة... تعال اُنظر إلىّ». من الواضح أن جدتنا هذه كانت تتمتع بروح وشقاوة العذراوات؛ والغريب أيضا أن الدبدوب الأحمر الشهير فى فلانتين زماننا كان أصلة سمكة حمراء فى فلانتين الفراعنة!.

لم يكن الشعر الغزلى كله عفيفا ففى أحيان كثيرة تهيج مشاعر الحبيب الفرعونى ويتمادى فى وصفه لنشوة اللقاء بالمحبوبة فيقول: «عندما أضم حبيبتى وذراعاها مفتوحان لى، يُخيل إلىَّ أننى رجل من بلاد بونت يحتضن شجرة عطور، وإذا قبلتها وشفتاها مفتوحتان سكرت من خمرهما... ليتنى كنت خادمتها التى تقعد عند قدميها كى أمتع نظرى بها». وأعتذر للقارئ على عدم استكمال ما قاله جدنا الشاعر المتيم قبل ثلاثة آلاف سنة حيث إننا لم ننبه فى البداية أن هذا مقال +18.

كان عدم رؤية الحبيبة يعنى المرض والضعف والهزال، وهو مرض يصفه الفراعنة بأنه يعجز الأطباء، حيث إن العلاج الوحيد هو رؤية الحبيبة فيقول أحدهم واصفا المشهد: «سأرقد فى بيتى وأمرض لعدم رؤيتها، سيزورنى الجيران والأطباء، فإذا جاءت حبيبتى فستجعل الأطباء يشعرون بالخجل، لأنها وحدها تعرف موطن الداء». لقد رأينا من قبل كيف تمنى أحدهم أن يكون خادمة لمحبوبته وأن يكون غاسل ملابسها أو خاتما فى إصبعها!، وفى البيت التالى نرى جدًّا آخر من أجدادنا الفراعنة «الحبِّيبة» يتمنى أن يكون بوابا على قصر حبيبته بل أن يكون لعبة فى يديها!، يقول الشاعر: «ليت أبواب قصر حبيبتى تفتح على مصراعيها؛ وليت حبيبتى تخرج غضبَى من البواب، أه ليتنى كنت أنا البواب حتى تؤنبنى فأسمع صوتها وهى غضبَى، وأكون كالطفل يرتعد خوفا منها».

شبه المصرى القديم عيون حبيبته بعيون البقرة المليحة، وكان يصف جمال حبيبته بحاتحور إلهة الحب والجمال، والتى كانت تمثل إما على شكل بقرة كاملة أو امرأة ممشوقة القوام برأس بقرة أو رأس آدمى، يعلوها تاج من قرنى البقرة وقرص الشمس. وإلى الآن لا يزال كثير من أهلنا فى مصر يشبهون الحبيبة وجمالها بجمال البقرة، وهو بالطبع موروث شعبى يعود إلى أجدادنا الفراعنة. كانت أجمل هدية للحبيبة باقة من الزهور الفواحة تصف مدى حب مقدمها، بينما الحبيبة كانت تحرص على أن يراها حبيبها لحظة اللقاء وهى متأنقة ترتدى أجمل الثياب والحلىّ، وتضع أثمن باروكات الشعر والعطور وتحرص على رؤية جمالها فى المرآة قبل الخروج لرؤية الحبيب. كما كانت المحبوبة تحرص على تتعلم فنون العزف والغناء ما استطاعت لكى تسعد قلب حبيبها بالعزف له والغناء أمامه بصوتها العذب الشجى. إن أجمل منظر حفظ لنا من عصر الدولة القديمة هو منظر الموظف الكبير ذى المقام الرفيع مريروكا وهو مضطجع على سريره وأمامه زوجته المحبوبة تعزف له على الهارب وتغنى له. إن مشهد مريروكا وزوجته رغم أنه شديد الخصوصية، وعلى الرغم من أن تصوير صاحب المقبرة وزوجته على السرير نادر جدا فى الحضارة المصرية القديمة، إلا أنه يخبرنا أن أقصى متع مريروكا كان يجدها وهو مضطجع على سريره يسمع أعذب الألحان وأشجى الأغانى من زوجته وحبيبته، وأنه يتمنى أن يجد هذه المتعة فى العالم الآخر أيضا.

وأخيرا نأتى إلى السؤال المهم: هل كان هناك عيد للحب عند الفراعنة؟، أو بمعنى آخر هل احتفل الفراعنة بالفلانتين؟.. والإجابة نعم، كان هناك عيد للحب فى مصر القديمة، وقد احتفل الفراعنة بالفلانتين فى صورة عيد الإلهة حاتحور ربة الحب والجمال، وكان عيد الحب يستمر عدة أيام حيث يخرج موكب حورس بحدتى أو الأدفوى (حورس إله إدفو) من معبده فى إدفو إلى معبد حتحور فى دندرة؛ لتقام مراسم الزواج المقدس، وهى أيام كلها حب وغزل وغناء وفرح عند المصرى القديم. كان عيد الحب عند المصريين مناسبة للخروج إلى المتنزهات والاستمتاع بالطبيعة، وأكل أشهى الأطعمة والفطائر المحلاة، حيث دائما وأبدا ما ربط أجدادنا الفراعنة بين كل مناسباتهم الجميلة وأعيادهم وبين الأكل، كإحدى ملذات العيش إلى جانب الموسيقى والغناء.

 

Rochen Web Hosting