رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

السر وراء تمثال شامبليون!

قسم : مقالات
الثلاثاء, 11 أكتوبر 2022 13:35

تجدّد الغضب الشعبى المصرى في الأيام الماضية على تمثال جان فرانسوا شامبليون، المنحوت من المرمر، والذى يصوره وهو يضع قدمه اليسرى فوق رأس تمثال لأحد فراعنة مصر العظام. والتمثال الذي تم نحته في عام ١٨٧٥م لايزال قائمًا في موقعه أمام كولديج دى فرانس، تخليدًا لذكرى العالم الفرنسى العبقرى جان فرانسوا شامبليون الذي نجح في فك طلاسم اللغة المصرية القديمة، ليمكن البشرية من قراءة تاريخ أعظم حضارة إنسانية على وجه الأرض والتى وُلدت على ضفتى نيل مصر واستمرت آلاف السنين تُبدع في كافة مجالات العلم والحضارة.
بالطبع، نحن كعلماء آثار، وبغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين، وأنا هنا أتحدث بلسان كل من تحدثوا معى بشأن هذا العمل الفنى، وجميعهم ممن زاروا إل كوليدج دى فرانس مرة أو أكثر، ويعرفون التمثال جيدًا، قد أبدوا جميعهم عدم ارتياحهم بمجرد رؤيتهم التمثال. والكل يتفق أن العمل أولًا من ناحية الفكرة فاشل بكل المقاييس الفنية! حيث يصور التمثال شامبليون ووجهه منكفئ على ظهر يده اليسرى منهمك في التفكير، كما لو كان يحاول حل مسألة دون جدوى! وهذا ليس بالطبع الغرض من تمثال صُنع ليُمجد إنجازات صاحبه؟ ولكن العمل الفنى خرج في النهاية يصور شخصًا أصابه الإمساك لفشله في حل مسألة رياضية! أما وصف شامبليون بأنه يضع قدمه اليسرى على رأس الملك الفرعونى فهو ليس دقيقًا تمامًا! حيث للأسف يضع شامبليون حذاء قدمه اليسرى فوق رأس الملك. وعلى الرغم من أن البعض ذهب إلى أن الرأس يمثل الملك تحتمس الثالث، فأنا أرى أن تعريف الرأس ولمن هو مِن ملوك وفراعنة مصر العظام لا يغير من الموضوع في شىء، إلا أننى أرى أنه رأس فرعون مصر العظيم رمسيس الثانى، ويحمل كل السمات الفنية المعروفة لتماثيل الملك العملاقة بمعابده في أبوسمبل والرامسيوم بالبر الغربى للأقصر، وإلى جانب المظاهر الفنية التي ترجح كون الرأس للملك رمسيس الثانى، فهناك دليل آخر نسرده فيما بعد، لكن قبل ذلك يجب علينا توضيح تداعيات وجود هذا التمثال إلى الآن قبل أن ننتقل إلى السر وراء هذا العمل غير الفنى والمشين.

منذ سنوات، وتحديدًا في بداية عام ٢٠١٣، اشتد هجوم المصريين على التمثال في كل وسائل الإعلام، وخرجت التصريحات الغاضبة من المصريين، وقد أدلى الجميع بدلوهم في الموضوع، سواء بعلم أو بغير علم، وكان معظم المهاجمين ممن لم يروا في حياتهم التمثال أو حتى وقعت أعينهم على صورة له، ولكن مجرد سماعهم للوصف وأن شامبليون يضع حذاءه على رأس ملك من ملوك مصر القديمة كان كفيلًا بتأجيج المشاعر والهجوم (كلاميًا) على فرنسا والفرنسيين. وخرجت دعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية، وأخرى تدعو لمنع البعثات الأثرية الفرنسية من العمل في مصر. ونادت بعض الدعوات إلى حملات للتمويل والتبرع لعمل تماثيل مصرية ضخمة لملوك الفراعنة وهم يضعون أقدامهم على رموز فرنسية، مثل شامبليون أو نابليون، وحتى شارل دى جول لم يسلم من الانضمام لقائمة المستهدفين بالوضع تحت أقدام الفراعنة! وبالفعل تم ترشيح أماكن وميادين بعينها في مصر لنصب تلك التماثيل المقترحة، منها الشارع أمام السفارة الفرنسية بالقاهرة أو المركز الثقافى الفرنسى بالمنيرة بالقرب من شارع قصر العينى. والغريب أننى أذكر أن المسؤول عن الآثار في ذلك الوقت، الدكتور محمد إبراهيم، صرح بأنه بصدد تقديم طلب رسمى للحكومة الفرنسية لإزالة تمثال شامبليون! وحقيقةً لم أفهم جيدًا معنى كلمة إزالة التي نستعملها في بلدنا للمبانى والإنشاءات دون تصريح قانونى، لكن أعتقد أن المعنى كان هو تدمير التمثال مثلًا أو دفنه أو إخفاءه احترامًا لمشاعر المصريين! ودون أن يبين لنا الأسس التي ستستند عليها الحكومة المصرية في ذلك الوقت لتقديم طلب (الإزالة) لعمل يُصنف كعمل فنى؟!

المهم جاء الرفض المصرى للتمثال كونه يمثل إهانة وتحقيرًا لحضارتنا المصرية التي حكمت العالم القديم قبل أن تظهر فرنسا على الخارطة. وذهب البعض لاستعمال كلمات لوصف التمثال بأنه يمجد العنصرية ضد الآخر، ويكرس لتحقير الشعوب الأخرى، وأنه ترسيخ للنظرة الاستعمارية الفرنسية، وبالتالى كان على الجانب الفرنسى أن يرد على كل تلك الاتهامات. وبالفعل خرجت التصريحات الفرنسية الشعبوية أيضًا (فلا شىء على المستوى الرسمى) بأنهم يقدّرون الحضارة المصرية، ولا يمكن أن ينظروا لها إلا بكل احترام وتقدير، والدليل هو حبهم وعشقهم لكل ما هو فرعونى وكل ما هو مصرى. وتحدث بعضهم عن ذلك العدد الضخم من علماء المصريات الفرنسيين، وكيف أن من أسس الأنتيكخانة- مصلحة الآثار- ومن أدارها هم الفرنسيون، من أول أوجست مارييت باشا وجاستون ماسبيرو وفيكتور لوريه وحتى بيير لاكو، الذي خاض معركة ضد هيوارد كارتر والإنجليز، لإبقاء كنز توت عنخ آمون في مصر.

أما عن التمثال، والحديث لايزال لإخواننا الفرنسيين، فهو من وجهة نظرهم مجرد خلاف ثقافى بين الشعوب، حيث الحذاء لا يمثل إهانة عندهم (أهل فرنسا والغرب)، بينما هو إهانة عندنا نحن المصريين والشرق، ففى فرنسا يمكن للشخص وضع حذائه في وجه محادثه وهو لا يقصد أي إهانة! بينما يعد ذلك إهانة في مصر.

نترك الفرنسيين لنعلق على ما قالوه، وهو في معظمه حقيقة، ولا يمكن إنكار عشقهم لحضارتنا، وأرقام مبيعات الكتب التي تُنشر في فرنسا عن الحضارة المصرية، وكذلك أعداد الزائرين لمعارض آثار رمسيس الثانى وتوت عنخ آمون تشهد على العشق الفرنسى للحضارة المصرية القديمة، بل واحترامهم لكل ما هو مصرى. والشعب الفرنسى معروف بأنه مهووس بالفراعنة وبالفن الفرعونى. أما غير الحقيقى في الموضوع فهو محاولتهم القول إن موضوع وضع الحذاء على الرأس لا يمثل إهانة! فالحقيقة أنهم فقط يقولون هذا الكلام لمحاولة التخفيف عنا وترميمًا لمشاعرنا ويجب أن نشكرهم على المحاولة، ولكن الحقيقة هي أن أي إنسان ينظر إلى التمثال، سواء كان مصريًا أو هنديًا أو فرنسيًا أو مريخيًا سيستشعر بأن هناك إهانة موجهة إلى مصر ممثلة في حضارتها. والمفاجأة التي أعلنها اليوم هي أن فرنسا والشعب الفرنسى بل وشامبليون نفسه لا علاقة لهم جميعًا بذلك العمل الذي أراد من خلالة النحات الفرنسى فريدريك أوجست بارتولدى الانتقام من مصر ومما حدث معه بمصر وفشل مشروعه الضخم الذي كان يحلم بتحقيقه ويعتبره حلم حياته، والقصة تتلخص في الآتى:

جاء بارتولدى إلى مصر وهو في بداية الثلاثينيات من عمره، وكان ذلك قبيل افتتاح قناة السويس. وسبب الزيارة هو تقديم مشروع طموح إلى الخديو إسماعيل، يتمثل في عمل تمثال عملاق على قاعدة ضخمة عند مدخل قناة السويس وتحديدًا في بورسعيد. وعرض الأخ فريدريك بارتولدى الرسومات التخطيطية للمشروع الذي كان على هيئة فلاحة مصرية شامخة ترفع ذراعها اليسرى إلى أعلى وتقبض بيدها على مشعل النور، وسمى العمل الفنى (مصر تحمل النور إلى آسيا)، وكان من المخطط أن يكون التمثال بارتفاع ٢٦ مترًا وعلى قاعدة بارتفاع ١٥ مترًا، أي أن العمل الكلى (التمثال وقاعدته) يصل ارتفاعه إلى ٤١ مترًا، وهو عمل ضخم بكل تأكيد. المهم أن الخديو إسماعيل رفض المشروع كله، وذلك لأن التكلفة كانت ضخمة والخزانة منهكة ومثقلة بنفقات حفر القناة وأعباء أخرى كثيرة. والغريب أن المشروع لم يتم رفضه وحسب، بل تم قبول مشروع مهندس فرنسى آخر لعمل فنار في الموقع المقترح للتمثال! بالتأكيد لا يمكن وصف مشاعر خيبة الأمل والضيق والحزن والغضب التي أصيب بها النحات الفرنسى الشاب بارتولدى من مصر وخديوها إسماعيل باشا؛ أولًا لأن المشروع لو تم تنفيذه كان سيدر عليه عائدًا يُؤمّن له حياته لسنوات عديدة قادمة. ثانيًا كان سيخلد اسمه للأبد عند أعظم قناة بحرية تجارية في العالم كله.

وفى غضون سنوات قليلة، يخرج تمثال شامبليون للنور من صنع بارتولدى الحانق على مصر، وذلك في عام ١٨٧٥م، ونتيجة ما تقدم شرحه خرج العمل الفنى ضعيفًا وغير معبر عن المضمون، سواء من قريب أو بعيد، وهو في المقام الأول إهانة لذكرى شامبليون الذي تم تصويره كشخص يعانى من الإمساك! بل إن الملامح الوحيدة الواضحة في العمل هي ملامح الملك المصرى المتأثرة بما شاهده بارتولدى في رحلته إلى أبوسمبل والأقصر، حيث معابد رمسيس وتماثيله الضخمة.

بقى موضوع أخير يجب توضيحه، وهو أن الفرصة جاءت بعد ذلك لبارتولدى لإحياء مشروعه القديم الذي رفضه الخديو إسماعيل بعد إدخال تعديلات عليه، ليصبح ما نعرفه اليوم بتمثال الحرية في ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية.

هذه هي قصة تمثال شامبليون، كما لم يروها أحد من قبل. فإذا كان علينا أن نغضب فلنغضب من بارتولدى، وليكن غضبنا بحجم وقيمة بارتولدى فقط، لكن تعميم الغضب حماقة، والأخطر من بارتولدى وأعماله هم هؤلاء المفتعلون المزيفون من المتشدقين بالحماسة الوطنية والغيرة القومية، وهم أول المسيئين لأوطانهم، وأول من يسعى لجر الأوطان للخراب! ولكن يجب أيضًا أن نحمد الله أن صراخهم وعويلهم دائمًا ما ينتهى إلى لا شىء، كما يقول المثل: «ضجيج بلا طحين».

Rochen Web Hosting