رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

صحافة وكفى

قسم : مقالات
الثلاثاء, 11 أكتوبر 2022 13:42

لا ينفصل حال الصحافة وأوضاعها فى أى دولة عن الحال العام وطبيعة النظام السياسى بها، فضلًا عن تكوينها الاجتماعى والبناء الثقافى لها، وهكذا حين صدر المرسوم بقانون رقم ٣٧ سنة ١٩٥٣ لحل الأحزاب، (أصدره اللواء محمد نجيب، رئيس مجلس الوزراء، والأمير محمد عبدالمنعم، الوصى على العرش، فى ١٨ يناير ٥٣)، أُغلقت معه أو اختفت صحف الأحزاب أيضًا، كان يمكن لهذه الصحف أن تستمر لو أن القائمين عليها قرروا مواصلة الصدور كصحف «مستقلة» أو غير حزبية، خاصة أن المستهدف بالمرسوم كان بعض قادة الأحزاب وليس الصحف، لكن بعض تلك الصحف كانت تُموَّل بالكامل من الأحزاب، وكان الاعتماد تامًّا على قادة كل حزب، وشؤون الحزب وأخباره ومعاركه تشغل صفحاتها، ويبدو أن البعض تصرف بمنطق «بركة يا جامع..». الواضح أنه كان هناك شعور منذ نهاية الأربعينيات بأن الأحزاب تسير نحو طريق مسدود.
الملك فاروق راح يتحدث مع المقربين، بل، فى اجتماع رسمى، عن نهاية الملكية، وأن البلاد تتجه نحو الجمهورية، وأن ذلك سوف يحدث يومًا، وكل ما يمكن له إبطاء مجىء هذا اليوم، وهذا ما دفع بعض الصحف إلى الابتعاد مسافة عن الأحزاب، حيث حققت قدرًا من الاستقلال، هكذا كان حال جريدة «المصرى»، لكن مع حدوث أزمة بين آل أبوالفتح ورجال الثورة، سارع المرحوم أحمد أبوالفتح باتخاذ قرار الإغلاق، وفقدنا بذلك صحيفة قوية، كان لديها الكثير من عناصر الاستمرار. الطريف أن عددًا غير قليل من محررى «المصرى» اتجهوا وقتها نحو جريدة «الجمهورية»، لسان حال الثورة، صوتها الرسمى.
كان طبيعيًّا أن تختفى الصحف الحزبية وتختفى معها المعارك السياسية الحادة على صفحات الصحف، فى هذا الجانب تغير المناخ الصحفى تمامًا، بقيت معارك سياسية، لكنها كانت تظهر عبر تلميحات صحفية فقط، وبعض «الملاسنات»، خاصة مع بروز ظاهرة تعدد الأجنحة داخل النظام السياسى، حدث ذلك بشراسة زمن الرئيس عبدالناصر، لكن مع كاريزما الرئيس وسيطرته الكاملة على المشهد، ظلت هناك حدود لصراعات الأجنحة والتلاسن بين أفرادها عبر الصحف، وبتعبير أحد رجال ذلك العصر، أحمد كامل، أول مدير للمخابرات العامة فى عهد السادات، كان عبدالناصر هو المؤلف والمخرج والبطل، لذا انفجر المشهد بالكامل بعد اختفائه مباشرة.

وتكرر الأمر فى زمن الرئيس السادات، فى خطوات عدة، ووصل إلى حد التطاحن فى مواقف عديدة وصعبة، ما كان بين عبدالعزيز حجازى وممدوح سالم، ثم ما جرى مع ممدوح سالم حين تأسيس الحزب الوطنى، بمراجعة صحف ذلك الزمان نجد ذلك منعكسًا فى صفحات الصحف ومقالات بعض الكُتاب. سمعت بعض التفاصيل من د. مصطفى خليل ومن اللواء نبوى إسماعيل، بعضها يتعلق بتباينات فى المواقف مع السادات شخصيًّا.

وكذلك الأمر أيام الرئيس مبارك، التعبير الشهير مند نهاية التسعينيات عن «الحرس القديم» بإزاء «الحرس الجديد»، كان أحد تجليات صراع الأجنحة داخل النظام، فى مرحلة معينة خرج الصراع من حدود الملاسنة إلى الهجوم العلنى والمباشر عبر الصحف وقنوات التليفزيون، ووصل إلى ما يشبه التصفيات المباشرة فى بعض الحالات. معظمنا يعرف الأسباب، ورأينا النتائج الوخيمة.

اقرأ أيضًا ..

هذه الملاسنات فتحت أبواب جهنم على الصحافة والصحفيين، فهى عبارة أو عبارات طليقة، لا يمكن لأحد أن يتحكم فى حركتها وتفسيراتها، الملاسنة قد لا تصل غالبًا إلى المقصود بها مباشرة، ويمكن أن تصيب آخرين، وقد يفسرها البعض وفق هواهم وأغراضهم فى الكيد لزملاء أو منافسين، لقد عانى معظمنا من تلك التفسيرات المغرضة حينًا والغبية حينًا آخر.

الملاسنة قدمت فرصًا ذهبية لبعض المزايدين، لسنوات طوال سمعنا مَن يهتف أنه انتقد عبدالناصر فى عز سطوته وناطح السادات و.. و.. وإذا أردت أن تتحقق من ذلك فلن تجد سوى أوهام وخيالات، إن لم نقل كذبًا مباشرًا وادعاءات بطولة.

ورغم أن التلاسن ارتبط بلحظة سياسية معينة، لكنه استمر حتى بعد تغير الوضع السياسى وعودة الأحزاب، بل إن بعض الصحف الحزبية اعتمدت التلاسن وليس الانتقاد المباشر فى حالات عديدة.

بعيدًا عن مسألة التلاسن، يجب النظر بإكبار وتقدير لوعى عدد غير قليل من كبار الصحفيين بدور مهنتهم ودورهم هم شخصيًّا فى الحفاظ على دور الصحافة سياسيًّا، كانوا مؤيدين للنظام ومحبين للرئيس، لكن ذلك لم يمنعهم من إبداء الرأى، حتى لو كان مخالفًا أو من المرجح أن يثير المتاعب لهم، هنا تترى أسماء إحسان

عبدالقدوس وفكرى أباظة وأحمد بهاء الدين وكذلك محمد حسنين هيكل وغيرهم.

ويُحسب لهذا الجيل من الصحفيين أنهم نجحوا بفضل حرفيتهم الشديدة ومهنيتهم العالية فى أن يحافظوا، رغم تشابه الموقف السياسى، على قدر من التنوع، وذلك بأن تمسكوا بخصوصية وتميز كل مطبوعة بمحرريها وكُتابها. ينطبق ذلك على الصحف اليومية الثلاث وكذلك على المجلات الأسبوعية، ذلك العهد الذى عرفت فيه صحافتنا، لأول مرة، أن يتجاوز توزيع مطبوعة واحدة رقم المليون، فى وقت لم يكن رقم التعداد قد بلغ الثلاثين مليونًا، ولم يكن لدينا سوى أربع جامعات.

توقفت المعارك الصحفية الحادة فى القضايا الحزبية والسياسية، لكن الصحف نشطت وتوسعت فى جوانب أخرى، تلك التى يُقال عنها صحافة نوعية أو متخصصة، السيدة العظيمة روزاليوسف تصدر هى ونجلها إحسان عبدالقدوس مجلة «صباح الخير»، مجلة «القلوب الشابة والعقول المتحررة»، وقد اختار لها هذا الشعار أحمد بهاء الدين، أول رئيس تحرير لها، ومازال شعارها إلى اليوم، وتحقق المطبوعة الوليدة نجاحًا كبيرًا. صدرت المجلة فى يناير ١٩٥٦، رغم أن ترخيص الإصدار يعود إلى سنة ١٩٥١. فى مؤسسة دار الهلال نشط صاحباها شكرى وإميل زيدان- نجلا جورجى زيدان- فقد أصدرا سنة ١٩٥٥ مجلة «حواء الجديدة»، وترأست تحريرها الأستاذة أمينة السعيد، وتم حذف كلمة الجديدة فيما بعد. بدأت المجلة شهرية، ثم صارت أسبوعية. المجلة تهتم بقضايا المرأة والمجتمع عمومًا، ولم يكن غريبًا أن تكون د. لطيفة الزيات من بين كُتابها، فضلًا عن اللامع جدًّا إحسان عبدالقدوس. كانت علاقة إحسان وثيقة بدار الهلال، كان يحرر صفحة إخبارية فى مفتتح مجلة المصور، مطلع الخمسينيات، وكان يوقعها باسم «سانو»، اسمه فى محيط الأسرة والمقربين؛ فى العام التالى مباشرة أصدرت دار الهلال مجلة «سمير» للأطفال، بعد ذلك وفى منتصف الستينيات تصدر الأهرام مجلة «الأهرام الاقتصادى»، ويترأس تحريرها د. بطرس غالى، أمين عام الأمم المتحدة، بعدها بعقود.

وربما تكون الصحافة الثقافية والأدبية أكثر جوانب الصحافة ازدهارًا فى تلك الحقبة، حين توقفت مجلة الرسالة، صدرت بعدها مباشرة «الرسالة الجديدة». نُشرت ثلاثية نجيب محفوظ بها على حلقات، ترأس تحريرها يوسف السباعى، وكان اسمًا لامعًا فى الحياة الثقافية قبل ٥٢، كان غزير الإنتاج الأدبى، أهم عملين له صدرا فى العهد الملكى «أرض النفاق» و«السقا مات»، ولما تأسست وزارة الثقافة سنة ١٩٥٨، أصدرت عدة مطبوعات ثقافية، أمكن لها أن تقدم عشرات الأسماء فى جوانب الثقافة والإبداع. أما كبار الأسماء من الأجيال السابقة فقد استوعبتهم الصحف الكبرى، أقصد أسماء فى وزن د. محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد وعلى عبدالواحد وافى، فضلًا عن توفيق الحكيم ويحيى حقى وشفيق غربال وزكى نجيب محمود

وعبدالرحمن بدوى وعثمان أمين وسامى النشار وغيرهم، وكانت لديهم مساحة واسعة من حرية الكتابة والتفكير، ورغم كل ما يُقال عن سيطرة اليسار وقتها فإن اليمين كان متربعًا ومسيطرًا، وبالتدقيق نجد أنه كان هو الغالب، حتى فى ذروة الستينيات.

جزء من زخم الصحافة الثقافية فى تلك الفترة أن كثيرًا من المعارك الثقافية والأدبية كانت انعكاسًا لقضايا ومعارك سياسية بامتياز، بدأ جمال حمدان نشر دراساته عن «شخصية مصر»، فى مجلة «المجلة»، وكان يترأس تحريرها يحيى حقى، بدأ حمدان الكتابة بعد فشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، الدراسة تركز على شخصية مصر جغرافيًّا وتاريخيًّا، كتاب حسين فوزى «سندباد مصرى»، كتبه سنة ٥٩، احتجاجًا على الوحدة بين مصر وسوريا وإلغاء اسم «الجمهورية المصرية»، ليصبح الجمهورية العربية المتحدة. غاص السندباد فى تاريخ مصر ليؤكد أن جل المعاناة كانت تأتينا من المناطق القريبة منّا.

محمد شفيق غربال يكتب فى الهلال- إبريل ١٩٥٤- عن موقف المؤرخين الإنجليز من ثورتهم وأنه بالقرب من مجلس العموم البريطانى تمثال للملك شارل الأول وتمثال لكرومويل الذى قطع رأس شارل، القضية عنده أن أحدًا من الفرقاء السياسيين ليست مبادئه «كلها حقًّا وليست كلها باطلًا»، والهدف «إعطاء كل ذى حق حقه». هذا رجل طالب سيد قطب بمحاكمته هو وآخرين بتهمة تجميل تاريخ أسرة محمد على، ورغم شكواه من هذا التحريض العلنى، لم يغير موقفه، اعترض على مطالبة البعض بإزالة تماثيل محمد على وإبراهيم باشا والخديو إسماعيل من بعض الميادين العامة.

معارك العقاد الضارية مع «اليسار الثقافى» لم تكن بعيدة عن المجال السياسى، لذا أصر بعض خصومه على أنه «عدو للثورة»، كاره لها، وهو يصر على جهلهم الشديد، هو لم يكن معاديًا للثورة، كان أقرب إلى اشتراكية «جورج برنارد شو»، له كتاب عنه، هو مع العدل الاجتماعى ومساندة الفقراء وضد الماركسية على طول الخط، خاصة فيما يتعلق بموقفها من الحرية الفردية.

لكن لم يكن ذلك كل ما كان.

Rochen Web Hosting