رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

التغلب على الأحزان بسماع الموسيقى

قسم : مقالات
الجمعة, 21 أكتوبر 2022 18:23

فى السنوات الأخيرة رحل ثلاثة من أعز وأقرب الأصدقاء إلى قلبى، ودائما أتذكرهم وأتغلب على الحزن والبعد بالفن. ذهبت هذا الأسبوع إلى الجونة لمدة ليلة واحدة بصحبة ابنتى منى لنشاهد العرض المبهر لأوبرا عايدة الذى قدمته فرقة روسية، وهو حدث مهم وصعب تنفيذه فى مدينة فى الصحراء، لأن هذه الأوبرا تحتاج إلى مسرح ضخم وبها جيوش وجنود واحتفالات ضخمة، واستطاعوا عمل ذلك، وكنت أخشى ألا يكون الصوت فى الصحراء مسموعا، لكنه كان واضحا والأوركسترا الضخمة وقائدها كان متميزا. فعلا كان شيئا رائعا، والتنظيم كان بديعا، والفكرة متميزة، فألف مبروك لسميح ساويرس.
شاهدت هذه الأوبرا مرات كثيرة، منها واحدة فى الهرم وأخرى فى الدير البحرى بالأقصر وفى دار الأوبرا، وشاهدتها فى ميلانو وفيينا، وأعلم أنها أوبرا صعبة، وكان الخديو إسماعيل طلب من الموسيقار الإيطالى فيردى تلحينها لتقديمها فى حفل افتتاح قناة السويس، لكنه تأخر، وتم العرض فى الأوبرا بعد سنوات.

قابلت بالصدفة داخل مسرح الجونة الضخم عبير وشروق بنتى الصديقة العزيزة الراحلة شمس الإتربى ومعهما أوليفر، طبيب الأعصاب السويسرى، زوج عبير، تقابلنا بعد العرض وأخذت أتذكر أمهما الجميلة شمس التى كانت من أقرب الأصدقاء وأعزهم لسنوات طوال.

شمس كانت شخصية غير عادية، فهى إنسانة بمعنى الكلمة، وكم التصرفات الإنسانية الرائعة التى شاهدتها عن قرب منها لا تعد ولا تحصى، وكلها تجاه الغلابة من المصريين وهم كثيرون، ليس فقط بمساعدات عينية، وإنما بإيجاد أعمال ووظائف ومساعدة البعض لبدء مشاريع صغيرة، والمساعدة فى تعليم الأولاد النابهين. كانت شمس شخصية وطنية تحب مصر وتريد لها التقدم والعظمة وتفعل ما فى وسعها فى جميع الأوقات لمساعدة الوطن.

اقرأ المزيد...

كانت لها علاقات واسعة بالمثقفين والفنانين المصريين بكافة أنواعهم، وكانت تعقد اجتماعات ثقافية كثيرة فى بيتها. شمس كانت قريبة جدا من قلبى، وكنا نتحدث فى كل شىء وعن كل شىء وكانت تفتح قلبها وتحكى عن عملها وعن عائلتها وتاريخها الشخصى والعام وكل شىء، وكنا نتبادل الاستشارات، وفجأة مرضت مرضها الأخير ورحلت وتركت فراغا كبيرا. فسلام لروحها وتحية حب لأولادها الذين تربطنى بهم علاقة رائعة.

الشخصية الثانية التى فقدتها وكانت قريبة من روحى وفكرى وقلبى وكنا نلتقى كثيراً لنتحدث فى كل الأمور الخاصة والعامة هى مديحة دوس. كانت مديحة على نفس الموجة من تفكيرى، وكانت شخصية إنسانية رائعة ليبراليبة الفكر، لكن يسارية الهوى وديمقراطية فى كل حياتها. كانت حواراتنا لا تنتهى واتصالاتنا التليفونية مستمرة، وسافرنا وحضرنا اجتماعات وضمتنا تجارب سياسية واجتماعية ووطنية سويا.

أصحابها أصبحوا أعز أصدقائى، وأصحابى أصبحوا أصحابها، وعندما أصيبت بالمرض اللعين فى الدم قال المتخصصون إنه لا توجد فرصة للشفاء، لكن بمعجزة تم الشفاء وعاشت سنوات بدون المرض، ومرة أخرى عاودها المرض بصورة مختلفة وغادرت الحياة. مازلت أذكر كلماتها فى الأسابيع الأخيرة وهى تقول «مش عاوزة أموت دلوقتي»، وأذكر وداعها فى الكنيسة عندما طلبت منى ملك رشدى، توأم روحها، أن أكون المتحدث عنها، وكانت لحظة من أصعب الأوقات وجسدها النحيل الصغير داخل هذا الصندوق الخشبى الكبير.

غادرتنا مديحة المصرية الوطنية الإنسانة العظيمة، وتركت لنا بنتين هما من أجمل الكائنات، شمس وملك، وثلاثة أحفاد، وتركت كتبا وأبحاثا وأفكارا، ومازلت أذكر شجاعتها عندما كانت أغلبية أعضاء نادى هيئة التدريس لجامعة القاهرة من الإخوان المسلمين، وعند الانتخابات التالية أحجم الجميع عن الترشح فى معركة لا أمل فيها، لكن مديحة ترشحت لإثبات الموقف، وفعلنا المستحيل لمساعدتها، ولكن التيار الإسلامى كان غالبا. فلروحها السلام وقلوبنا دائما معها.

الصديق الثالث هو د. فؤاد عبدالستار، زميل العمر. تقابلنا فى قصر العينى كطلبة ونحن لم نبلغ العشرين عاما، واستمرت العلاقة تنمو وتكبر وتزداد قوة بمرور الزمن. ترك فؤاد مصر فى أوائل السبعينيات إلى إنجلترا، حيث عمل هناك لسنوات عديدة، وكنا فيها على اتصال مستمر بالخطابات والزيارات، فلم تكن التليفونات سهلة. فى هذا الوقت تعرف على كريستينا، التى أصبحت بعد ذلك زوجتى، وتعرفت أنا على لويز التى أصبحت زوجته، وهاجر فؤاد إلى أمريكا وعاش فى شمال ولاية نيويورك واستمرت العلاقة الوثيقة بيننا.

اقرأ أيضاً...

كنا نتحدث تليفونيا يومى السبت والأحد، وهما يوما إجازته مع مراعاة فروق التوقيت، وفى السنوات الأخيرة أثناء مرضه كنا نتحدث بالساعات كل يوم، وكنا نتفق أن نشاهد فيلما معينا، ثم نناقشه بعد ذلك بالتليفون فى نفس اليوم. زرته فى بيته عشرات المرات وزارنى كلما أتى إلى مصر. تحدثت معه عن كل شىء فى حياتى وعن أفكارى وكل شىء فعلته وأعتبره سيئا أو خاطئا. الإنسان يحتاج لإنسان يحبه ويثق فيه ويرتاح له وهذا ليس سهلا.

تقاطعت حياتنا بحيث كنا نعيش كأننا فى بيتين متجاورين، وفى الحقيقة بيننا آلاف الأميال بين القاهرة ونيويورك، سافرنا سويا، لأننا من نفس التخصص، إلى مؤتمرات طبية عشرات المرات فى كل أنحاء العالم وزرنا سويا معظم الولايات الأمريكية وكندا. كان صعبا علىّ جدا أن يغادر فؤاد الحياة. كانت ضربة مؤلمة للغاية.

فى النهاية نحن نعيش فى هذه الدنيا فترة قد تطول وقد تقصر، لكن الحياة بدون مشاعر إنسانية وعلاقات بين القلوب والعقول والأفكار مع الأصدقاء تكون حياة صعبة. لنا جميعا أصدقاء كثيرون ومعارف ربما بالمئات فى كل مكان، لكن كم صديق يمكن أن تحكى له عن مكنون قلبك وعن ظروفك وعن أزمتك؟، أدعوكم من كل قلبى إلى المحافظة على أصدقائكم الذين تثقون فى صداقتهم وودهم وإخلاصهم، فالحياة قصيرة مهما طالت والمعارف والأصدقاء كثيرون، لكن كم منهم صديق يمكن أن نقول له كل شىء؟، ضعوهم فى عيونكم قبل أن يضيعوا، وهكذا الحياة.

إلى روح شمس الإتربى ومديحة دوس وفؤاد عبدالستار، الأصدقاء العظام الحقيقيين الذين احتلوا مكانا عظيما فى قلبى ووجدانى، ومازالوا يحتلون نفس المكان ونفس المكانة، أبلغكم حبى وشكرى على من قد منحتموه من حب وعطاء لى ولمصر وللإنسانية.

قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك.

Rochen Web Hosting