رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

هيوارد كارتر فى مصر

قسم : مقالات
الجمعة, 21 أكتوبر 2022 18:25

أيام قليلة تفصلنا عن الاحتفال بمرور ١٠٠ عام على أعظم كشف أثرى فى التاريخ، وهو الكشف عن مقبرة فرعون مصر الصغير توت عنخ آمون، والذى اشتهر أيضًا باسم الفرعون الذهبى، وكذلك بالاسم المختصر الملك توت. وبهذه المناسبة الفريدة التى تأتى مرة واحدة فى العمر، فليس أفضل من الكتابة عن محطات مهمة فى هذا الكشف لتعريف الناس بالظروف والأحداث المثيرة التى وقعت قبل وأثناء وحتى بعد الإعلان عن الكشف عن المقبرة الذهبية للملك توت عنخ آمون. تلك الأحداث كثيرًا ما تغفل عنها الكتب والمقالات بسبب أن بريق الذهب وجمال الكنوز المكتشفة بالمقبرة دائمًا ما يتوارى خلفها كل شىء آخر.
وفى البداية لابد من الحديث عن الرجل الذى كشف عن المقبرة وسجل اسمه فى التاريخ إلى جوار اسم الملك توت عنخ آمون. وهو المكتشف الإنجليزى هيوارد كارتر، والذى ساقه القدر من مزرعة فقيرة فى قلب إنجلترا إلى مصر ليكون على موعد مع أعظم اكتشاف أثرى فى التاريخ.

ولد هيوارد كارتر فى ٩ مايو من عام ١٨٧٤، فى منزل متواضع بأحد أحياء لندن، لأب هو صمويل كارتر، رسام بجريدة أخبار لندن المصورة، وزوجته هى مارتا جويس، وقد أنجبا عشرة من الأبناء وابنة وحيدة، وكان ثلاثة أخوة لهيوارد كارتر قد رحلوا عن الحياة قبل مجىء أخيهم هيوارد إلى الدنيا. ولد هيوارد ضعيف البنية، معتل الصحة، واعتقد الأب والأم أن هذا المولود الضعيف لن يعيش طويلًا، ولذلك قررا إرساله إلى عمتيه ليعيش معهما فى منزل العائلة الريفى بعيدا عن لندن، لعل جو الريف ينجيه من المصير المحتوم!.

لم يكن لدى هيوارد كارتر أى مهارات سوى موهبة الرسم التى ورثها عن أبيه، وكذلك أخوه وليام كارتر والذى كان هو أيضًا رساما بارعا. لم يتلق كارتر أى تعليم نظامى واعتمد على مدرسة الحياة، كما ذكر هو نفسه فى مذكراته، وإن كان قد تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب فى مدرسة تطوعية تديرها بعد النسوة لتعليم أبناء الفقراء. يؤكد ضعف المستوى التعليمى والثقافى لهيوارد كارتر الأخطاء الإملائية والإنشائية فى خطاباته الأولى التى كان يرسلها من مصر عندما أتى إليها وهو شاب صغير برعاية من عائلة أمهارست الشهيرة.

البارون وليام أمهارست هو رجل أرستقراطى له ولع بالفنون والآداب استطاع أن يمتلك مكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب والتحف النادرة، ومنها برديات وآثار مصرية جمعها طوال حياته، وكان له خمس بنات من زوجته مارجريت يعشقن التاريخ المصرى القديم والآثار الفرعونية، وبالطبع تعرف عليهن هيوارد كارتر من خلال أبيه الذى قام برسم بورتريهات للعديد من أفراد عائلة البارون أمهارست.

وعندما تمت إذاعة أنباء عن قيام لجنة صندوق استكشاف مصر بتشكيل بعثة أثرية مهمتها تسجيل آثار مصر الوسطى، بقيادة الأثرى نيوبرى، كتبت السيدة مارجريت خطابًا إلى اللجنة المسؤولة تطلب منهم ضم الشاب الفنان هيوارد كارتر إلى أفراد البعثة واستغلال مهاراته فى الرسم. بالفعل وافقت اللجنة ووضعت راتبا مقداره خمسون جنيها إسترلينيا فى العام لهيوارد كارتر، أى حوالى أربعة جنيهات فى الشهر، وذلك فى عام ١٨٩٠، وكان عمره حينذاك ١٧ سنة.

قضى هيوارد كارتر بضعة أيام فى القاهرة قبل النزوح إلى المنيا لبدء العمل فى المشروع. وخلال إقامته فى القاهرة تعرف على عالم الآثار الإنجليزى الشهير فلندرز بترى، وكذلك زار متحف الآثار، والذى كان فى قصر إسماعيل باشا بالجيزة، حيث كانت المقتنيات قد نقلت إليه مؤقتًا بعدما غرق متحف بولاق بمياه الفيضان، ولم يكن مشروع إنشاء متحف جديد للآثار المصرية قد بدأ بعد. سافر كارتر ونيوبرى وأعضاء البعثة الأثرية إلى المنيا لبدء العمل فى تسجيل المناظر والنقوش المصورة على جدران المقابر ببنى حسن ودير البرشا، وكانت إقامة البعثة فى داخل المقابر التى يعملون بها.

بعد انتهاء أعمال التسجيل والرسم بمقابر بنى حسن انتقل كل من نيوبرى وهيوارد كارتر سيرا على الأقدام من بنى حسن إلى البرشا عبر الجبال والتلال، ليتما مهمتهما هناك، إلا أن خلافا وقع بين أفراد الفريق أدى إلى استقالة نيوبرى من البعثة، وبالتالى فقد كارتر السند واضطر إلى الانتقال والعمل مع بترى فى حفائره بتل العمارنة عاصمة إخناتون بالمنيا. فهل كان هيوارد كارتر يعلم أنه سيكون له لقاء فريد بعد سنوات طويلة مع ابن هذا الملك؟، بالطبع لا.

خلال فترة عمله القصيرة مع بترى تعلم كارتر مهارات الحفر والترميم بجانب التسجيل الأثرى، وقد انتقل للعمل مع العديد من البعثات، وطالت إقامته بمصر فتعلم العربية وصار خبيرًا فى التعامل مع العمال المصريين واكتسب خلال ست سنوات من العمل مع إدوارد نافيل فى الدير البحرى الكثير من المهارات حتى تحول من مجرد رسام أثرى هاوٍ إلى أثرى محترف بدأ اسمه يتردد فى الأوساط الأثرية فى مصر. وبعد إنشاء المتحف المصرى بالقاهرة، والذى أصبح أيضًا مقرًا لمصلحة الآثار، تم استحداث وظيفتين، هما كبير مفتشى الشمال وكبير مفتشى الجنوب.

والمهمة التى من أجلها تم استحداث وظيفة كبير المفتشين هذه هى تعمير وإثراء المتحف الجديد بالآثار الفرعونية، وكانت سلطة كبير مفتشى الشمال تمتد من الإسكندرية والدلتا حتى قوص جنوبًا ومقره بسقارة، بينما تمتد سلطة كبير مفتشى الجنوب من قوص وحتى السودان جنوبًا ومركزه فى الأقصر. زكى نافيل وعلماء آثار آخرون اسم هيوارد كارتر لتولى أحد المنصبين، فكان أن تم تعيينه فى وظيفة كبير مفتشى الجنوب، بينما تم تعيين الأثرى جيمس إدوارد كويبل، خريج أكسفورد، ككبير مفتشى الشمال، وكل منهما أصبح يتقاضى ثروة تقدر بـ ٦٠٠ جنيه مصرى فى العام، بواقع ٥٠ جنيها شهريًا، وهى ثروة كبيرة بمقاييس ذلك العصر، وللتذكير كان الجنيه المصرى أعلى قيمة قليلا من الجنيه الإسترلينى الذى كان يباع بـ ٩٧ قرشا.

نجح هيوارد كارتر، الذى لم يتخرج فى أى مدرسة أو جامعة، فى أن يتساوى بعالم أثرى مثقف ومتعلم وخريج أكسفورد، وكان ذلك مجرد محطة فى حياة كارتر، الذى استلم عمله فى الأقصر وبدأ يقوم بأعمال تنظيفات وترميمات للمواقع الأثرية وإعدادها للزيارة، وكان يستغل علاقاته وصداقاته للحصول على تبرعات الأثرياء من الزائرين لاستغلالها فى عمله للحفاظ على الآثار، وخاصة ضد السرقات، حيث قام باستبدال أبواب المقابر الملكية التى كانت من الخشب بأبواب أخرى من الحديد. ولم يمنع ذلك حدوث سرقات شنيعة فى عهده، ومنها سرقة مقبرة الملك أمنحتب الثانى، والاعتداء على موميائه ومومياء أخرى كانت فى قارب تمت سرقته، وعلى الرغم من تيقن كارتر أن عائلة عبد الرسول وراء السرقة، وعلى الرغم من القبض على ثلاثة أخوة من العائلة، إلا أن القارب لم يظهر إلى الآن.

فى ١٩٠٤ تم نقل كارتر لوظيفة كبير مفتشى الشمال، ومقره بمنطقة سقارة الأثرية. وكان هذا النقل من المفترض أن يكون بمثابة المكافأة لهيوارد كارتر، إلا أنه للأسف كان نقطة فارقة فى حياته، فما هى سوى أشهر قليلة، وتحديدا فى يوم ٨ يناير من عام ١٩٠٥، حتى يقوم وفد مكون من ١٥ فرنسيًا من موظفى شركة الكهرباء بزيارة إلى سقارة.

وللأسف وصلوا إلى المنطقة وهم فى حالة سكر شديد، وأساءوا الأدب مع كل من قابلهم، حتى وصل بهم الأمر إلى الاعتداء على الموظف المصرى محمد أفندى، المسؤول عن المنطقة، وكذلك الغفير المعين على السيرابيوم!، وبعد أن استغاث الغفر بالمنطقة بهيوارد كارتر حاول الأخير احتواء الموقف دون نجاح!، فقد تمادى السكارى فى التعدى على كل من يواجههم، حتى إنهم حطموا أثاث مكتب مصلحة الآثار، فما كان من كارتر إلا أنه أمر الغفر بمواجهتهم وطردهم من المنطقة.

ويبدو أن الغفر كانوا يتشوقون لصدور مثل هذا الأمر من كارتر، فراحوا يضربون الفرنسيين السكارى بالعصى (النبابيت- جمع نبوت) والنعال حتى أشبعوهم ضربًا وأصابوا منهم عددا كبيرا جعلهم يفرون بحياتهم من سقارة. ويكتب مدير شركة الكهرباء الفرنسى شكوى ضد كارتر والغفر المصرى، مدعيًا أنهم اعتدوا على النساء والأطفال الذين كانوا مع المجموعة الفرنسية.

على الرغم من الأدلة التى كانت تقف مع كارتر ورجاله فى قضيتهم ضد الفرنسيين، ومنها شهادة الحمارين الذين قاموا بنقل الفرنسيين السكارى من ميت رهينة إلى سقارة، إلا أنه تقرر نقل كارتر إلى طنطا التى لم تطل إقامته بها كثيرًا، فقدم استقالته من منصبه فى ٤ نوفمبر ١٩٠٥. والغريب أن تاريخ ٤ نوفمبر هذا، وهو الذى ارتبط بيوم فقده لوظيفته، سيصبح بعد أعوام هو ذاته تاريخ اليوم الموعود فى حياة هيوارد كارتر.. والبقية فى الأسبوع القادم بإذن الله.

Rochen Web Hosting