رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

أين معركة مستقبل مصر؟

قسم : مقالات
الجمعة, 28 أكتوبر 2022 16:52

لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن التطرف، حيث لم أرَ بحوثًا كافية تلقى الضوء على المسارات النفسية المختلفة التى يمكن أن تقود الناس إلى تبنى العمل الدينى أو السياسى المتطرف.
حتى بعد ثورة ٢٠١١، لم أرَ بحوثًا عن نوعية الشباب الذين كانوا فى التحرير فى الأيام الأولى وعلاقتهم بهؤلاء الذين تواجدوا فى الأيام الأخيرة.. لم أرَ تحليلًا للهتافات وأوقات بثها ولا لنوعية الشباب الموجودين ولا درجة تعليمهم.

أنا أعتقد، مثلًا، أن ثورة 2013 كان قلبها الطبقة المتوسطة فى مصر المسماة (حزب الكنبة)، وهو الأمر غير التقليدى فى الثورات عبر التاريخ، ولكنى لم أقرأ تحليلًا علميًا يؤكد اعتقادى، ولا بحثًا اجتماعيًا ولا إحصائيًا فيمن كانوا فى تجمّع رابعة، ولماذا؟، حتى لا نُضخم ولا نُقزم بهدف خلق انطباعات غير حقيقية تترسخ فى ذاكرة المجتمع الجمعية.

نحن نحتاج إلى اتباع منهج علمى يعتمد على البحوث الاجتماعية لمعرفة أصول التطرف، ولا ننساق وراء آراء قد تكون مهمة ولكنها قد لا تعكس إحصائيًا حقيقة علمية نابعة من بحوث واسعة النطاق عبر عدد من السنوات.

إننى أعتقد أن الذين يجدون صعوبة فى التكيف مع المتطلبات أو الظروف الفكرية الجديدة والمتغيرة يميلون إلى تبنى وجهات نظر أيديولوجية وعقائدية أكثر حدة حول السياسة والقومية والدين ويتمتعون بعدم المرونة والاستعداد أكثر لتأييد العنف.

اقرأ المزيد...

حروب الجيلين الرابع والخامس ينتصر فيها من يمتلك أدوات التأثير والقادر على امتلاك عقول ووجدان الآخرين. وهذه حروب داخلية وعالمية أيضًا، وتأثيرها يعتمد على جهل المتلقين من ناحية وغباء إدارة الدول من ناحية أخرى.

الجهل لا يتيح للمواطنين التفرقة بين الصحيح والمفبرك، ولا يقودهم للبحث عن الحقيقة بل تصديق ما ليس له مرجعية، بتكراره ودفعه فى الأذهان، وغباء إدارة الشعوب التى لا تترك للمجتمع وسيلة شرعية للتعبير بحرية عن رأى المواطنين وأحيانا غضبهم.

لقد أثبت العلم أن الانطباع الذى قد يخلقه الغير يصبح بعد زمن حقيقة لا تحتاج إلى برهان، بل يدافع عنه البعض ويثورون ويتقاتلون من أجله، وهو مخلوق من مجموعات تسعى للسيطرة السياسية أو أجهزة استخبارات أو إعلام موجه له أهداف، وقد يقود أممًا إلى فشل وانهيار، بل يقضى على الهوية ويدفع لرفض الحاضر ويقتل الأمل فى المستقبل.

إن خلق التطرف فى مصر وتغذيته هو نوع من أنواع حروب الجيلين الرابع والخامس، لتفتيت استقرار المجتمع، والعودة بالمجتمع المصرى من الحداثة التى كانت قد بدأت قبل كل دول المنطقة فى بداية القرن العشرين إلى الرجعية، ومن المدنية التى تحترم حرية المعتقد واحترام الاختلاف والتعدد إلى التطرف الدينى أحادى الفكر، والتطرف السياسى الذى لا يرى وسيلة للتغيير سوى بالعنف والهدم. إن تغييب التأثير المصرى بقواه الناعمة والذكية على المنطقة هو فى صالح من يريد أن يهيمن على مقدرات الشرق الأوسط عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا.

أولًا: دعونا نفكر مَن هم المنافسون لمصر فى التأثير الحضارى؟.. هم إسرائيل وإيران وتركيا والمملكة السعودية الصاعدة، وإن لم نتحالف ونجد أسس اتفاق بين مصر واختياراتها لهذا التحالف «وأرى أقربهم السعودية ودول الخليج»، فإن ريادة مصر ستتدنى، للأسف، رغم أنها العمود الفقرى التاريخى والمستقبلى للتنوير والحداثة حتى لهم.

اقرأ أيضاً...

ثانيًا: علينا إدراك أنه لا يقاوَم الفكر إلا الفكر، وهى مهمة المثقفين وقادة المجتمع.. وبكل أسف فإنه عبر العقود السابقة كانت هذه المعركة هى مهمة أجهزة الأمن فقط، ليس لتكاسل المجتمع المدنى فحسب، ولكن أيضا لأن هذه الأجهزة لا تثق فيه ولا تسمح له بالتدخل فيما تظنه عملا أمنيا حصريا.

المعركة بلا مواربة كانت فى غير صالح المجتمع، مما أدى إلى انهيار سياسى فى 2011، وصل الإخوان المسلمون من خلاله إلى اختطاف ثورة الشباب، بل إلى حكم البلاد.. وهو نفس الخطأ الذى قد تقع فيه الدولة سياسيًا، عندما يرى أى نظام حكم أنه لا بديل له، وأن استقرار البلاد مرهون بوجوده، وأن الحرية والتغيير يؤديان إلى الفوضى، رغم أن التجربة أثبتت أن تداول السلطة السياسية المدنية هو أساس استدامة استقرار البلاد والحداثة.

أرصد حركة حداثة فى المملكة السعودية ودول الخليج.. أحييها.. ولكنها دون مصر ستصبح لقمة سائغة لحروب الجيلين الرابع والخامس، فيجب على مصر عدم التباهى بدورها فى الماضى الذى ساند هذه الدول، وعلى الخليج التأكد أن مصر تمر بلقطة تاريخية انكمشت فيها قدراتها الاقتصادية ولكنها عائدة لدورها وقيمتها لا محال.

الفرصة ما زالت أمامنا سويًا باحترام متبادل لجعل واقع ريادة التنوير والحداثة فارضًا لنفسه على مؤامرات تُنسج وخطط تُبنى لنهب الثروات والوقيعة بين الشعوب والحكام وبين هذه الأمم وبعضها.

إن التطرف والإرهاب أساسه فشل فى إدارة بلاد عظيمة مثل: العراق وسوريا ولبنان والسودان سياسيًا، ووقوده أغلبه من الشباب، وكثير منهم من المتعلمين وخريجى أرقى الكليات، لأننا لم نعِ أهمية وحيوية بناء الوجدان وبناء قواعد التنمية الإنسانية المستدامة، فسقطوا فى هوة التطرف والعنف رغم جمال هذه الشعوب وثرواتها.

لا الثروة تحمى الشعوب، ولا الالتحاف بمظلة الولايات المتحدة وأوروبا..

درس التاريخ..

أما فى مصر، فإن الفكر السلفى المحافظ الرجعى الذى تسلل فى وجدان المجتمع لم يختفِ بعد 30 يونيو، بل أراه يزداد انتشارًا، ويظهر جليًا فى ردود فعل السوشيال ميديا على خصوصيات أفراد المجتمع واستمرار قوانين مثل ازدراء الأديان، وتعريف المواطنين بدينهم وليس انتماءهم لمصر فى بطاقتهم الشخصية، بل إن دار الإفتاء الرسمية قد أصدرت فتوى فى شكل ملابس النساء فى مصر وماذا تكشف وماذا تخفى، فى سابقة لم تحدث من قبل.. المرة الوحيدة التى رأيت فيديو لها حول ذلك كانت فى خطاب عام لجمال عبدالناصر بعد ثورة يوليو يقول فيه:إن مرشد الإخوان طلب منه تحجيب السيدات فى مصر، وكان رد فعل المواطنين الضحك وكأنها نكتة لرد فعل عبد الناصر الذكى، وها نحن بعد ذلك بسبعين عامًا نحقق طلب مرشد الإخوان السياسى جدًا.

الحقيقة أنه لا يوجد لتيار الحداثة والتنوير وجود سياسى مستدام فى مصر، وفى كل تغيير نظام حكم شكلى يظهر تيار الرجعية ويزداد قوة.

إن الذين يستطيعون حماية الهوية المصرية والوطن هم شبابُنا المتواجدون فى فصولنا الدراسية لمدة ١٨ سنة متتالية. كيف يصل إليهم مُخططو حروب الجيلين الرابع والخامس، ويشككون فى تاريخهم، ويسحبون الأمل من وجدانهم فيتحولون إلى الهدم وليس البناء؟.. هذا هو ما يجب أن نعمل عليه، ويشمله جهدنا فى تطوير مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة فى البلاد.

إن مواجهة ذلك ليست مسؤولية الجهات الأمنية والمخابراتية والرقابية، بل تقع المسؤولية بشكل أكبر على الإرادة السياسية والتنسيق مع المجتمع المدنى ومؤسسات الإعلام والشباب والرياضة والثقافة والتعليم، التى لا أراها تعمل بتناغم مؤثر فى بناء الشخصية الواعية.

اقرأ أيضاً...

.. وما الذى يجعل للأخبار الكاذبة والشائعات كل هذا التأثير؟

إن أحد الأشياء التى تدفع إلى انتشار الأخبار المزيفة، التى بتكرارها تصبح حقيقة، هو الكسل المعرفى واستسهال أن يرى الناس الواقع من خلال عدسة انتماءاتهم السياسية والدينية، وأن يكونوا متحمسين لرؤية الأخبار المزيفة على أنها حقيقية لأنها تتوافق مع ما يريدون أن تكون عليه، وهى أمور من الممكن تلافيها بالتعليم والإعلام الذكى.

إن الصراع الموجود فى العالم ليس بين الخير والشر، بل هو دائما إيمان شخص ضد إيمان شخص آخر.. المطلَقات هى أقصر الطرق التى تجعل الإنسان بلا بدائل، ويتحكم فيه من يدّعى حصرية الصلة بالله. عندها يتحول الدين إلى مشكلة بدلا من هدفه الربانى الأساسى وهو المحبة والتعارف، لأننا نقلصه ليصبح فقط غيبيات وتعليمات ومفسرين، وليس روحانيات وقيما متفقا عليها بين كل الأديان.

الحل يعود بنا إلى التعليم ونوعيته وأساليبه. المسألة ليست فى منهج يُدرس فقط، ولا تابلت، وتكنولوجيا، ولكن فى معايشة داخل المؤسسة التعليمية تتأثر بالمُدرس والأستاذ والمناخ الثقافى الذى يخلقونه.

الحلول متاحة، ولكنها يجب أن تستدام ولا تتغير بتغير الحكومات. إن تأثير التعليم طويل المدى بطىء لأنه يحدث عبر أجيال. وإذا كانت هناك حروب من الجيلين الرابع والخامس تعطل شبابنا وتبنى أجيالًا مضطربة لا تثق فى نفسها، فلنبحثْ فى ساحة التعليم ومعلمى الأجيال القادمة، فالمعركة الحقيقية هناك.

Rochen Web Hosting