رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

بطرس غالى والوحدة الوطنية

قسم : مقالات
السبت, 03 ديسمبر 2022 20:24

لم أعرف فى حياتى شخصًا كانت مسألة الاختلاف الدينى لا تمثل له دافعًا فى أى اتجاه مثل بطرس غالى الذى آمن منذ مطلع شبابه بنوع من الحياد الدينى الذى جعله يحترم مقدسات الآخرين ولا يبحث كثيرًا فيها ولا ينبش عنها، وعندما كنت طالبًا فى السنة الثالثة فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة كان يدرس لنا محتوى قاعة البحث المقرر، وطلب من كل واحد منا أن يختار موضوعًا يتصل بالتنظيم الدولى المعاصر، وقد تقدمت إليه يومها طالبًا أن يكون البحث الذى اطرحه هو عن التنظيم الدولى الإسلامى منطلقًا من كتاب عبدالرحمن الكواكبى (أم القرى) ومستمدًا فى الوقت ذاته ما ذكره جمال عبدالناصر فى كتابه (فلسفة الثورة) حول موسم الحج باعتباره مؤتمرًا إسلاميًا سنويًا، وقد استقبل الدكتور بطرس اقتراحى بترحاب شديد وحماس زائد رغم أننى كنت أتوجس خيفة فى البداية من أننى أطرح على أستاذ كبير موضوعًا لا يخلو من التأثير الدينى ويطرق الأبواب أمام بعض المظاهر المبكرة للإسلام السياسى، وبالفعل أتممت البحث وقرأته على مسمع من بعض أساتذتى وزملائى فلقى الأمر برمته استحسانًا وتقديرًا، وظل بطرس غالى يتذكر ذلك كلما رآنى فى المناسبات المختلفة، وفى عام 1981 كنت مستشارًا لسفارة مصر فى نيودلهى بالهند وعدت - أنا وأسرتى – فى إجازة نصف المدة فاقترح الدكتور بطرس عليّ أن أتولى تحرير كتاب يصدر عن الوحدة الوطنية المصرية خصوصًا أن علاقة الكنيسة بالدولة كانت تتجه إلى الدخول فى منزلق لا مبرر له حيث لعب غياب الكيمياء الشخصية بين الرئيس السادات والبابا شنودة دورًا سلبيًا فى إحداث انقسام بعد أحداث الخانكة والزاوية الحمراء، واقترح الدكتور بطرس غالى - رحمه الله – أن يكون الكتاب من ثلاثة فصول كبيرة يكتبها ثلاثة ممن يعرفهم وهم المستشار طارق البشرى والمستشار وليم سليمان قلادة وكاتب هذه السطور على أن يقوم د. بطرس غالى بكتابة المقدمة، وبالفعل كان له ما أراد وصدر الكتاب عن مطابع الأهرام للنشر تحت عنوان (الوطن الواحد والشعب الواحد)، وأنا شديد الاعتزاز بأننى شاركت فى هذه السن المبكرة بالكتابة مع أستاذين فاضلين وبمقدمة من أستاذنا جميعًا د.بطرس بطرس غالى فى موضوع محورى كان هو موضوع الساعة فى ذلك الوقت، ومازلت أتذكر أننى كنت خارجًا من مبنى مؤسسة الأهرام يوم السادس من أكتوبر عام 1981 بعد مراجعة مسودة الكتاب عند انتهائه فإذا بى أسمع من يقول إن أمرًا خطيرًا قد حدث، وأن إرسال التليفزيون قد توقف ويبدو أن الرئيس المصرى قد أصيب، وبالفعل كانت تلك هى لحظات اغتيال الرئيس المصرى الراحل أنور السادات أثناء العرض العسكرى احتفالًا بعيد النصر وذكرى العبور العظيم عام 1973، وقد لاحظت دائمًا أن بطرس غالى كان من رجال الوطن قبل أن يكون من أتباع الكنيسة، وظل دائمًا يوقر رجال الدين عن بعد ولقد سمعت البابا شنودة ذات مرة يعاتبه مازحًا بقوله إنه لم يره فى الكنيسة منذ سنوات، وبالمناسبة فلا اعتراض لنا على أن يكون المسلم أو المسيحى متدينًا، ولكن الاعتراض يبدأ عندما تتلون حياته ونظرته للبشر والأشياء من خلال نظرة دينية بحتة تفكر بمنطق الحلال والحرام وحده دون منطق القانونى وغير القانونى، كما يجب أن يكون الأمر، لقد كان بطرس غالى ابنًا بارًا للوطن المصرى يتصرف بحياد وعدالة وتوازن بين كل أبنائه بلا تفرقة أو تمييز أو تهميش، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:

الأولى: إن اقتران الدكتور بطرس غالى بسيدة من أصل يهودى تنتمى لعائلة مصرية إيطالية من بيت نادلر الذى يقترن اسمه بصناعة الحلويات وقد تحولت هذه السيدة الفاضلة بعد ذلك إلى المسيحية عند اقترانها بزوجها الراحل، وبالمناسبة فهى لا تزال تملأ حياتنا حيوية وسعادة وتعيش على ذكريات زوجها العظيم وتحتوى أبناءه وهم تلاميذه من الرجال والنساء فى كل اتجاه لأن بطرس غالى لم ينجب ولكن له عشرات الآلاف من الأبناء والبنات فى كافة الأقطار ومختلف التخصصات، وهى سيدة مصرية حتى النخاع فضلت البقاء فى مصر حتى بعد رحيله وآثرت ذلك على حياة أكثر دعة ورفاهية فى العاصمة الفرنسية.

الثانية: إن عائلة غالى تضم نماذج وطنية مشهودا لها ونحن نتذكر الآن اسم واصف بطرس غالى الذى أعلن بعد وفاة والده أنه يحل قاتليه من دمائه ويؤمن بالوطن قبل الأفراد حتى اختاره الوفديون وزيرًا للخارجية احترامًا له وتقديرًا لعائلته، بل إن بطرس باشا غالى ذاته كان من أكفأ الكوادر الوطنية فى التاريخ السياسى والإدارى لمصر مع مطلع القرن الماضى حتى قلده السلطان العثمانى وشاحًا رفيعًا تقديرًا لكفاءته ونبوغه، كما أنه هو أيضًا بطرس باشا غالى الذى هرع لمقابلة الخديو عندما جرى عزل الشيخ البشرى وأعلن غالى تضامنه الكامل مع رجل الدين الإسلامى المسلم فى وطنية ونزاهة كاملين.

الثالثة: لقد كتب بطرس غالى فى مقدمة كتابه المشترك مع الأستاذ يوسف شلاله أن لديه نقطة ضعف تجاه مسألة السودان وعلاقته بمصر نظرًا لارتباطها بتاريخه العائلى واسم جده الراحل، ولقد ألقيت شخصيًا الكلمة الوحيدة فى مئوية بطرس باشا غالى، وذلك فى احتفال بالكنيسة البطرسية بدعوة من الدكتور بطرس واختيار منه.

وعندما رحل بطرس غالى عن عالمنا عام 2016 جرى دفنه فى الكنيسة البطرسية لأنها كنيسة العائلة التى نقل إليها جثمان بطرس باشا غالى فى مطلع ثلاثينيات القرن الماضى.. وسوف نتذكر د.بطرس غالى دائمًا باعتباره مصريًا رفيع القدر، عالى المكانة شق طريقه بنزاهة وشرف حتى تبوأ منصب أمين عام الأمم المتحدة.

 

Rochen Web Hosting