رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

ثقافة التفاؤل وسط المِحن

قسم : مقالات
السبت, 11 فبراير 2023 16:51

قرأت للأستاذة فاطمة المزروعى، وهى أستاذة جامعية وكاتبة قصص وشاعرة إماراتية مرموقة، تقول:
«عندما يقع أحدنا فى مشكلة أو تعترض مسيرة حياته عقبة، فإن خير وسيلة للتغلب عليها هو شحن النفس بطاقة من التفاؤل والأمل وملء الروح بهذه المشاعر، لكن الذى يحدث فى حياتنا اليوم مختلف تمامًا عن هذا الجانب، فبنظرة سريعة لمواقع التواصل الاجتماعى أو ما يصلنا عبر التطبيقات الذكية فى الهواتف.

نجد أنها كلمات وأقوال تنم وتدل على حالة من البؤس والقنوط وتأنيب النفس، كم هائل من الكلمات السوداوية تحيط بالكثير من الناس فتتلبس يومهم وتغذى أوقاتهم، والسبب أنهم أخفقوا أو تعثروا».

ونبهنى صديقى محمد عبدالقدوس إلى أننى فى مقالتى الأسبوع الماضى ركّزت على الجمال الذى أحسست به فى محنتى المرضية، ودخلت منه إلى مفهوم الجمال فى الحياة، وكان يجب علىَّ أن أتكلم عن التفاؤل وسط المحنة، لأن ما يحتاجه المجتمع الآن هو جرعات تفاؤل وأمل.

وسألنى واحدٌ من شباب الحالمين بالغد قائلًا: نسمعك تقول إن چيناتك متفائلة، وتبدو مبتسمًا فى أحلك الأوقات، فهل هى صفة موروثة؟، وإن كان كذلك، فلا ذنب إذن على التعساء والمتشائمين، فقد ولدوا هكذا!.

قلت: أدعوكم لقراءة كتابى الجديد «أنا والميمات»، والميم هى وحدة حمل الأفكار عبر الزمن لكل البشر، وتعمل بنفس منطق الچينات. لقد تعمَّقتُ ووجَدتُ أن الأفكار تشبه فعلًا الچينات؛ فالچينات تحمل معلومةً وراثيَّةً بداخلها، تتناقل، وتتكاثر، كما تحمل الأفكار معلومات ومعرفة تتناقل وتتكاثر، ولكن بوسائل مختلفة.

فى حالة المادة الوراثية؛ فإن الحمض النووى يحمل المعلومة التى هى عبارة عن تعليمات كيميائية تُرشِد الخليَّة وتُملى عليها كيفية بناء البروتينات اللازمة التى يحتاجها جسم الكائن الحى للبقاء على قيد الحياة والتكاثُر، فهناك دافِعٌ داخل تركيبة چينات الخلق للتكاثُر؛ لتصنع نُسخًا أكثر من نفس المخلوق باستخدام مادتها الوراثية.

من دون هذا الدافع تموت المادة الوراثية، ويندثر المخلوق. مادَّتنا الوراثية تتشارك فى سِماتٍ مثيرة ومُميَّزة، مع الأفكار، والأساطير، ودروس الحياة القاسية؛ فجميعها تتضمَّن رسائلَ، ودافِعًا للتَّكاثُر والتَّضاعُف والانتشار. ومع أن هناك فارقًا كبيرًا ما بين الحياة البيولوچية والأفكار، إلَّا أن هناك رابطًا بين الاثنتين، فالأفكار المتضاعِفَة والمنقسمة ذاتيًّا تشبه كثيرًا الچينات، ومصطلح «الميمات» يساوى «الچينات» «gene =mem».

والتفاؤل فكرة وأسلوب حياة، من الممكن بتكرار تطبيقه أن يصبح «ميم» ويستقر فى وجدان المجتمع مثله مثل الچينات. فنعم، أنا چيناتى متفائلة وكذلك ميماتى.

إن العقل الجمعى للأسرة والمجتمع يخلق طاقة إيجابية والعكس. هذا العقل الجمعى تحركه ثقافة المجتمع وقادته وإعلامه وفنونه. والاستعداد الوجدانى له يبدأ من الصغر، فى المنزل والمدرسة والجامعة، فى النادى والساحة، فى بيوت الصلاة «جوامع وكنائس ومعابد». الحياة نعمة من الخالق، والبهجة بها شكر لله، وعلينا أن نتوق إليها ونتذوقها، فهى حق من حقوق الإنسان.

أما التفاؤل فى الحياة فهو شعور داخلى رائع، هو حالة من الارتياح التى يشعر بها الفرد لإيمانه بأن دومًا هناك طريقة للخروج من المشكلات فى حال حدوثها.

أن نكون متفائلين يعنى أن نرى النور وسط الظلام، أن نشعر أنه رغم جميع التحديات والمصاعب والآلام، لايزال هناك الكثير نحبه فى الحياة وهو جميل ويستحق أن نعيش ونناضل ونكافح لتحقيقه والوصول إليه.

المتفائل يرى فى الأزمات فرصًا، وتفاؤله يُنَشّط أجهزة المناعة النفسية والجسدية لديه، فى حين يستنفد التشاؤم طاقة الإنسان ويقلل من نشاطه ويضعف من دوافعه.

إن أسلوب التفسير التشاؤمى هو أحد الأسباب المؤدية للإصابة بالأمراض الجسدية المختلفة، وانخفاض مستوى الأداء الأكاديمى والمهنى. إن الإنسان هو الذى يستطيع أن يقرر مصيره أو مستقبله، التفاؤل ليس هبة أو خصلة فى شخصية الإنسان، إنما مهارة يتعلمها الفرد حتى يتقنها ويفكر إيجابيًا لتصبح أسلوب حياة.

وأذكركم بأن التفاؤل والتشاؤم مُعديان.. بمعنى آخر يمكن اكتسابهما من الاحتكاك بالآخرين.. فملازمة المتشائمين تجعلك مثلهم ذا نظرة سوداوية ومترددًا وغير مِقدام.. ولكن صحبتك للمتفائلين تجعل الحياة بنظرك أبسط وأكثر إثارة ويمكنك مواجهة العثرات بشكل إيجابى.

انظر حولك جيدًا وأحسن اختيار الرفقة والأصدقاء أولًا، ثم غَذِّ عقلك وروحك بالأفكار الجميلة، واغْمُر وجدانك بالتفاؤل، وستجد النتائج الإيجابية تنهال عليك تباعًا.

إن هناك عقلًا جمعيًا للمجتمع يُخلق بمجموع الطاقة الإيجابية فيه، ويحفزه جوهر الأديان والتعليم والإعلام والفنون، وهو ما يضع على كاهل قيادات المجتمع مسؤولية كبيرة لأنهم هم صانعو هذا المناخ والميسرون لوجوده، وأنا أحملهم المسؤولية لتحقيق ذلك.

لقد أدركت وأنا وسط محنة المرض بين الوعى واللاوعى لمدة 52 يومًا فى ألمانيا قيمة التفاؤل، فلولا ثقتى فى الفريق الطبى المعالج، ورؤيتى للنور وسط الظلام، والذى كان يضيئه لى ولداى وحفيداتى وزوجتى وأختى بوجودهم حولى.

يمسكون يدى ويحتضنون ذراعى ويمسحون على رأسى، ثم ما ينقلونه لى من رسائل باقى أسرتى وأصدقائى من مصر والعالم العربى وهم لا يعلمون إن كنت أسمعهم أم لا، لوجودى فى برزخ بين الوعى واللاوعى، ولكنى كنت أحس بهم وأسمعهم، فقد كانوا مصدر طاقتى للتفاؤل وعدم الانزلاق إلى الثقب الأسود الذى كان يجذبنى بطاقة جاذبية متشائمة وسلبية.

التفاؤل كان سلاحى، بل ما منحنى قدرة المقاومة، وإيمانى بالله الذى تعمق وقت المحنة.

فيا كل صاحب مرض، ويا كل مظلوم، ويا كل مُعانٍ ومُشتكٍ.. تسلّحْ بطاقة تفاؤل، وابحث عنها مع من تحب، وثق بأن قَدَرك يرتبط بإرادة ربك، ولكنه مرتبط أيضا بقدرتك الإيجابية على تحدى عوائق المعاناة. وابحث عن نور التفاؤل، فقد يكون ما أنت فيه اختبارًا وليس نهاية.

قالت الشابة المتفائلة: ولكن لابد أن نحترم الجانب الوراثى يا دكتور، فأنا فى أسرتى ومعى والدى ننظر دائما للأمور بتفاؤل، وأخى ووالدتى يميلان إلى التشاؤم، مع أننا نعيش فى نفس المنزل تحت نفس الظروف.

قلت لها: هناك جزء من الحقيقة فى ذلك، ولكن الإرادة الإيجابية مهمة جدًا.. وأنصح كل واحد فيكم أن يفكر فيما يسعده فى إطار القيم السويّة ويبحث عنه. وكما قلت لكم إن التفاؤل مهارة نستطيع اكتسابها.

وأذكركم أن الله عز وجل قال: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»، أى أننا كلنا لدى نفوسنا مساحة نكتسب فيها الجديد بإرادتنا الحرة، وليكن التفاؤل ورؤية أفضل ما فى الحياة ورؤية النور وسط الظلام مكتسبًا نسعى إليه.

قال شاب آخر: وماذا عن مناخ التشاؤم حولنا، ماذا نفعل فيه؟!.. تهديد من الإرهاب، ووجدان سلفى يريد العودة بنا إلى الماضى وكآبة فى التفكير، والعالم كله يقفز لمستقبل فوضوى وحروب عالمية ليس لها معنى، وخوف من أزمة فى المياه جنوبا، وتحدٍّ سكانى وإقتصادى هائل، وفرص توظيف تتلاشى وغلاء فى المعيشة...كيف تنتظر منا التفاؤل فى هذا المناخ؟

قلت له: هل تتصور أن الحياة ستسير بلا تحديات.. كأنك تريد لعب مباراة ضامنًا المكسب لغياب الخصم.. إن أجمل ما فى الحياة هو مواجهة التحديات وتحقيق الفوز لنفسك ولغيرك.. التهديد فى كل مكان، وكان من الممكن أن تكون مصر فى موقف العراق أو سوريا أو اليمن أو ليبيا.

إلا أن شعبنا استطاع الصمود.. نعم، نحتاج إلى أكثر وأكثر، فهذا حقنا، نحتاج إلى عدالة ناجزة، واحترام حقيقى للحريات، وضمانات لتداول السلطة واحترام الدستور، ونحتاج لحقنا فى تعليم عالى الجودة، ورعاية صحية محترمة، ومواصلات تحترم إنسانيتنا.

وحد أدنى من الأجور يناسب ارتفاع الأسعار، فهل يمكننا تجنب القلق والخوف؟ لا.. ولكن يمكننا، وفى إطار الشرعية، أن نطالب ونعمل ونبادر ونعترض أحيانًا ونبحث عن الحلول، فليس الفخر ألا نسقط، ولكن الفخر أن ننهض كلما سقطنا، فلا تكونوا من الذين يتذمرون أن للورد شوكًا بل من الذين يتفاءلون من أن فوق الشوك ورودًا.

Rochen Web Hosting