رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

الحلم بين الواقع والمستحيل

قسم : مقالات
الجمعة, 18 أغسطس 2023 10:22

كثيرا ما تمنيت بعض الأشياء طوال سنوات عمرى، ولكن الواقع حرمنى منها والأحلام خذلتنى ، وكانت الأزمة دائما أن ما تمنيت لم يكن فى يدى ولكنه واقع فرضته الظروف والأقدار .. ربما استسلمت أحيانا وإن بقى الحلم يراودنى من بعيد رغم سنوات العمر ورحلة الزمن .. ثلاثة أحلام راودتني، كان من بينها ان أعيش حتى أرى حزبا سياسيا حقيقيا أنتمى إليه يشبه الوفد القديم ، وأن تطل رموزه بالفكر والوعى والزعامة ، كنت دائما أحلم أن نشاهد فى إحدى تجاربنا السياسية شجرة حقيقية مثمرة تعطى ثمارا تشبه ما كانت عليه مصر..

 

ــ فى تجارب سابقة كانت مصر حديث العالم، فى تجارب حزبية تشبه أحزاب العالم العتيقة، مثل أحزاب أوروبا والهند وبلاد كثيرة عرفت طريقها إلى الحرية وحقوق الإنسان .. كل التجارب مجرد أحزاب فوقية شكلتها السلطة ما بين الاتحاد القومى وهيئة التحرير والاتحاد الاشتراكى والحزب الوطنى وللأسف أنها تجارب بقيت بلا ثوابت وظلت شبحا من أشباح السلطة فى كل مراحلها .. وللأسف الشديد لم تتطور تجربة من هذه التجارب وتصبح حزبا حقيقيا يمتد فى الشارع ويجمع الحشود وينمى الوعى ويطرح الفكر الجاد فى بناء حياة سياسية تقوم على تداول السلطة والحريات وحقوق الإنسان .. وكانت النتيجة أننا مازلنا نعيش تجارب الماضى ونكررها حتى لو تغيرت الوجوه والأسماء .. وحين أشاهد آخر ما بقى من تجاربنا الحزبية أراها صورة من بقايا الزمن القديم حتى تغيرت الوجوه والأسماء والملامح..

 

ــ كان من حظى أن التقيت يوما فى مكتب الأستاذ هيكل فى الأهرام مع واحد من أقوى وأشهر رجال الأعمال فى مصر وكان يطلق عليه لقب ملك القطن وهو «فرغلى باشا» .. وامتدت علاقتنا وكنت أزوره فى قلعته بالإسكندرية بسيارته الرولزرويس الشهيرة أو نلتقى فى مكتب وزير التجارة فى ذلك الوقت السيد زكريا توفيق عبد الفتاح، ومن فرغلى باشا عرفت قصص نجاح طلعت حرب وعبود باشا وياسين وأبو رجيلة ، وهذه الكوكبة من رجال الأعمال فى مصر وكم حدثنى «فرغلى باشا» عن قصصه مع عبود باشا ، وماذا حدث بعد ثورة يوليو مع أبو رجيلة وكيف كانت الحكومات تقترض من رجال الأعمال ، ولماذا جمع طلعت حرب بين صناعة النسيج والمجتمع الريفى فى قلب الدلتا فى مدينة المحلة؟ ، ولماذا أقام أستوديو مصر ووضع قواعد السينما المصرية؟ ، وكيف كان بنك مصر من أهم معاقل الصناعة المصرية؟ وكيف أنشأ المسرح القومى فى قلب القاهرة؟ وكيف جمع بين الاستثمار فى الصناعة والثقافة والفنون؟..

 

ــ كان يعرف كل شيء فى هذه الأمبراطورية التى شيدها.. فى أوراق محمد عبد الوهاب الخاصة قصة طريفة بينه وبين طلعت حرب قال عبد الوهاب «كان لى حساب فى بنك مصر بمبلغ أربعين ألف جنيه سحبته وطلبت من أخى حسن أن يضعه فى حزام ولا يتركه حتى فى نومه واتصل بى طلعت باشا وقال سحبت فلوسك ليه يا محمد وارتبكت فى الرد عليه فقال: رجع الفلوس للبنك. وأعدتها» .. كان يتابع كل شيء حتى حسابات العملاء..

 

ــ أقل من عشرة أشخاص قام عليهم اقتصاد مصر، منهم طلعت حرب وعبود وفرغلى وأبو رجيلة وياسين، هذا بخلاف ملاك الأراضى فى الدلتا والصعيد وقد بقيت لكل واحد منهم ذكريات طويلة من الوطنية وحب مصر..

 

ــ لا أنكر أن أحلاما كثيرة رافقتنى لو أن هذه الشجرة المثمرة بقيت فى أرض مصر وامتدت ثمارها فى أسماء ورموز جديدة لتكمل دورها فى بناء اقتصاد يقوم على الدراسة والوعى وصدق الانتماء ولكن الأشياء تعثرت وساد منطق التجارة على منطق الإنتاج وتحولت مشروعات الشعب إلى صفقات ومكاسب سريعة..

 

ــ بقى عندى حلم ثالث بعد الأحزاب والسياسة ورجال الأعمال، أن أشاهد مرة أخرى صحوة جديدة للثقافة والفن والإبداع المصرى وقد كان من أهم إنجازات العقل المصرى .. لن أحلم بطه حسين وأم كلثوم وفاتن حمامة وعبد الحليم وعمر الشريف وأحمد زكى ، وقد لا أحلم بعبد الوهاب وشوقى ورامى ولكننى سوف أحلم بأحمد زويل وفاروق الباز والقيسونى والمسيرى وأحلم بآلاف الأطباء والعلماء والمفكرين والمبدعين.

 

ــ سوف أحلم بشوارع نظيفة وحوار راق وإنسان مهذب، سوف أحلم بالأسرة المصرية بعيدا عن دعوات الشذوذ ومعدلات الطلاق وأطفال الشوارع ، سوف أحلم بشاشة راقية وأفلام نزيهة ومشاهد صاحب فكر. لا أطالب بعودة للوراء ولكن بنظرة حكيمة للمستقبل، أريد بمصر أحزابا سياسية حقيقية ورجال أعمال يستعيدون أمانة الماضى وصدق الانتماء. أحلم بعد أن سرقتنى سنوات العمر أن يسمع صوتى وتقدر كلماتى وأن أجد أطياف الحب والرحمة تحلق فى سماء مصر. ترى .. مازلت مسرفا فى أحلامي!!..

 

ــ إذا كانت رحلة الأحلام قد تعثرت فإن الإصرار على الحلم مهما كانت الظروف سوف يبقى دائما زاد الحالمين من البشر والويل كل الويل لشعب فرط فى أحلامه ولم يدافع عنها. ومازال حلمى الذى لن أفرط فيه أن أنتمى إلى حزب سياسى حقيقى حتى لو ظهر متأخرا وأن أشاهد أطياف طلعت حرب تحلق فى سماء مصر وأن ينطلق صوت طه حسين وهو يؤكد مجانية التعليم وأن التعليم حق مثل الماء والهواء.

 

ــ قد يرى البعض أن الأحلام أخذت نصف سنوات عمرى وهم على حق، لأن الشعر حلم أبدى جسدته وصورته أقلام كثيرة قبلى وسوف يجيء من يكمل رحلة الأحلام مهما كانت قسوة الحياة وسخرية الزمن، ومع رحيل سنوات العمر لا يملك الحالمون غير أن يتمسكوا بأحلامهم..

 

 

 

..ويبقى الشعر

 

مَا زالَ يرْكضُ بَيْنَ أعْمَاقى

 

جَوادٌ جَامحٌ..

 

سَجنوهُ يوما فى دُروبِ المسْتحيلْ..

 

مَا بَيْنَ أحْلام الليَالى

 

كانَ يَجْرى كلَّ يَوْم ألفَ مِيلْ

 

وتكسّرتْ أقدامُهُ الخضراءُ

 

وانشَطرتْ خُيوط ُالصُّبح فى عَيْنيهِ

 

وَاختنق الصَّهيلْ

 

مِنْ يومها وقوافِلُ الأحْزان تـَرتـعُ فى رُبُوعى

 

والدّماءُ الخضْرُ فى صَمتٍ تسيلْ

 

من يَومهَا.. والضَّوءُ يَرْحلُ عنْ عُيونى

 

والنـّخيلُ الشـّامخُ المقهُورُ

 

فِى فـَزع ٍ يئنُ.. ولا يَمِيلْ..

 

مَا زالتِ الأشـْبَاحُ تسْكرُ مِنْ دمَاءِ النيلْ

 

فلتخبرينـِى.. كيف يأتى الصُّبْحُ

 

والزمَنُ الجمِيلْ..

 

فأنا وَأنت سَحَابتـَان تـُحلقـَان

 

على ثـَرى وطن ٍبخيلْ..

 

من أينَ يأتِى الحُلمُ والأشْباحُ تـَرتعُ حَوْلنا

 

وتغـُوصُ فى دَمِنا

 

سِهَامُ البطـْش.. والقـَهْرُ الطـَّويلْ

 

مِنْ أينَ يأتى الصبْحُ

 

واللــَّيْـلُ الكئيبُ عَـلى نزَيف عُيُوننـَا

 

يَهْوَى التـَسَكـُّعَ.. والرَّحيلْ

 

من أينَ يَأتى الفجْرُ

 

والجلادُ فى غـُرف الصّغـَار

 

يُعلمُ الأطفالَ مَنْ سَيكونُ

 

مِنـْهم قاتلٌ ومَن ِالقتيلْ ..

 

لا تسْألينى الآنَ عن زَمن ٍجميلْ

 

أنا لا أحبُّ الحُزنَ

 

لكن كلُّ أحزانِى جراحٌ

 

أرهقتْ قلبى العَليلْ..

 

ما بيْنَ حُلم ٍخاننى.. ضاعتْ أغَانِى الحُبّ..

 

وانطفأتْ شموسُ العُمر.. وانتحَرَ الأصِيلْ..

 

لكنه قدَرى بأن أحيا عَلى الأطـْلالْ

 

أرسمُ فى سَوادِ الليل

 

قِنديلا.. وفجرًا شاحبًا

 

يتوكـَّآن على بقايَا العُمر

 

والجسدِ الهزيلْ

 

إنى أحبُّك

 

كلما تاهت خـُيوط ُالضَّوء عَنْ عَيْنى

 

أرى فيكِ الدَّليلْ

 

إنى أحبـُّك..

 

لا تكونِى ليلة ًعذراءَ

 

نامت فى ضُـلـُوعى..

 

ثم شرَّدَها الرَّحِيلْ..

 

أنى أحبـُّك...

 

لا تكـُونى مثلَ كلِّ النـَّاس

 

عهدًا زائفـًا

 

أو نجْمة ًضلتْ وتبحثُ عنْ سبيلْ

 

داويتُ أحْزان القلوبِ

 

غرسْتُ فى وجْهِ الصَّحارى

 

ألفَ بسْتان ٍظليلْ

 

والآن جئتك خائفـًا

 

نفسُ الوُجوه

 

تعُودُ مثلَ السّوس

 

تنخرُ فى عِظام النيلْ..

 

نفـْسُ الوُجوُه..

 

تـُطلُّ من خلف النـَّوافذِ

 

تنعقُ الغرْبانُ.. يَرتفعُ العَويلْ..

 

نفسُ الوجُوه

 

على الموائِد تأكلُ الجَسدَ النـَّحيلْ..

 

نـَفسُ الوجوهِ

 

تـُطلُّ فوق الشاشَةِ السَّوداءِ

 

تنشرُ سُمَّها..

 

ودِماؤنـَا فى نشْوة الأفـْراح

 

مِنْ فمهَا تسيلْ..

 

نفسُ الوجوهِ..

 

الآن تقتحِمُ العَيُونَ..

 

كأنها الكابُوس فى حلم ٍثقيلْ

 

نفسُ الوجوه..

 

تعُودُ كالجُرذان تـَجْرىَ خلفنـَا..

 

وأمَامنا الجلادُ.. والليلُ الطويلْ..

 

لا تسْألينى الآن عَنْ حُلم جَميلْ

 

أنا لا ألومُ الصُّبحَ

 

إن ولــَّى وودّعَ أرضنـَا

 

فالصبحُ لا يَرضى هَوَان َالعَيْش

 

فى وَطن ٍذليلْ

 

أنا لا ألومُ النارَ إن هَدأتْ

 

وصَارتْ نخوة عرجاء

 

فى جَسَد عليلْ..

 

أنا لا ألـُوًمُ النهرَ

 

إن جفتْ شواطئـُه

 

وأجدَبَ زرْعُه..

 

وتكسَّرتْ كالضَّوء فى عَيْنيهِ

 

أعناقُ النخيلْ..

 

مادَامَتِ الأشْباحُ تسْكرُ

 

منْ دمَاء النيلْ..

 

لا تسَألينى الآنَ..

 

عن زمن ٍ جميلْ

 

قصيدة «جاء السحاب بلا مطر» سنة 1996

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Rochen Web Hosting