رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

ذكرياتى مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر (1)

قسم : مقالات
السبت, 15 أغسطس 2020 21:09



تخرجت فى كلية الطب جامعة عين شمس، ديسمبر عام 1957، بعد قيام الثورة بستة شهور، وعايشت أثناء تعليمى فى المدارس الابتدائية والثانوية والجامعة مجتمع ما قبل الثورة، ولم يكن لى نشاط سياسى، ولكن كنت حريصاً على التفوق للحصول على أمل الأسرة فى أن التحق بكلية الطب، وحرصى على أن أحصل على مجانية التفوق وأوفر على الأسرة مصاريف كلية الطب وكانت كبيرة ما بين نفقات الدراسة ومصاريف الكتب والأجهزة المساعدة.

ولكن يهمنى أن أشير إلى الأوضاع الاجتماعية المتردية إلى مستوى أن كان هناك مشروع للحفاء لتوفير أحذية أو صنادل لملايين من الحفاة، ومشروع إعانة الشتاء للحصول على بطاطين لفقراء الوطن للحماية من برد الشتاء، أما الإقطاع فأنا من قرية ليس بها ملكيات زراعية كبيرة، ولكن بجوارنا قرية سكانها عشرة آلاف نسمة، جميعهم يعملون لدى صاحب الأرض أو صاحب زمام القرية بأكملها، أكثر من عشرة آلاف فدان، وكنا نسمع عن الأوضاع المتردية لسكان هذه القرية.

عايشت فى شبابى انتخابات مجلسى الشعب والشيوخ، وكان النظام أن يدخل الفلاح وفى يده نصف ورقة الجنيه إذا أعطى صوته للعضو المحترم صاحب الإقطاعية يحصل على نصف الآخر للجنيه، أما الذى لا يعطى صوته فيُعلَّم ظهره، وبعد الخروج يحصل على علقة ساخنة حتى يكون عبرة لغيره.

استقبلنا الثورة، وكانت لدينا أحلام وآمال كبيرة لمستقبل الوطن، أصابتنا فترة إحباط عندما حدث خلاف بين الرئيس محمد نجيب، الرئيس الشرعى للثورة، وأعضاء مجلس قيادة الثورة، على رأسهم جمال عبدالناصر، عاصرنا أحداث أزمة مارس 54، ثم قبلنا، مع التحفظ، إبعاد الرئيس محمد نجيب وقيادة جمال عبدالناصر العمل التنفيذى ورئاسة الوزراء.

كانت لدينا تجربة غير مريحة عندما حدث خلاف فى الكلية حول نظام الامتحان، وحضر وزير التعليم، الصاغ (الرائد/ كمال الدين حسين)، شاب فى أوائل الثلاثينات، للتفاهم معنا (الطلاب)، لم يحصل على تعاطف أو الاقتناع، تجربة سيئة أخرى حلّت بعميد الكلية المحبوب، الدكتور عبدالمحسن سليمان، طلب وزير التعليم، الصاغ كمال الدين حسين، مقابلته لأمر عاجل، ذهب العميد فى الموعد المحدد، وانتظر فى المكتب لأكثر من ساعة، ولم يقابله الوزير، غضب العميد لكرامته التى أهينت من إحدى الشخصيات، أصغر من أولاده، ترك المكتب بعد أن كتب استقالة من العمادة ومن الكلية، عبدالمحسن سليمان هذا كان إحدى علامات الطب، رائداً من رواد أمراض العيون، وصاحب عزبة تبرع بها كلها لإنشاء معهد للرمد، وأنشئ المعهد بالجيزة، ولا أعلم إن كان يُذكر أنه من بنى هذا الصرح العظيم أم لا. كان قائداً ومديراً للعمل من الدرجة الأولى، وكان أغلب أعضاء هيئة التدريس يحملون له الاحترام والالتزام، وكنا نحن الأطباء نسعد بحضور الأساتذة الساعة الثامنة صباحاً ولا يغادرون قبل الساعة الثانية بعد الظهر، واشتكى بعض الموتورين من أساتذة الأقسام الأكاديمية بأنه يستخدم سيارات الكلية فى الذهاب إلى العزبة التى تبرع بها، لم يقبل الإهانة، ولم يتراجع عن تبرعه، وكان له أكبر الفضل فى تعيينى معيداً بقسم الجراحة، ثم أسافر إلى الخارج فى أول بعثة تسافر بعد حرب السويس إلى إنجلترا فى أكتوبر عام 1957.

وصلت إلى لندن بعد عام من هزيمة بريطانيا فى العدوان الثلاثى على مصر، والمملكة المتحدة تعانى من الاكتئاب القومى.

جمال عبدالناصر بدأت شعبيته فى الظهور والتفاف المواطنين حوله بعد إصدار قانون الإصلاح الزراعى وتوزيع الأرض على المعدمين، ثم تعرضه للاعتداء بقصد القتل من أحد أعضاء الإخوان المسلمين فى الإسكندرية عام 54، ثم حصوله على صفقة الأسلحة التشيكية وكسر احتكار السلاح عام 55، ثم جلاء قوات الاحتلال البريطانية بعد ثمانين عاماً من الاحتلال فى عام 55، وأخيراً تأميم قناة السويس، الحدث الأكبر فى تاريخ مصر، رداً على امتناع الولايات المتحدة عن تمويل السد العالى.

وتوقعاً للعدوان تم تكليف عدد من أعضاء هيئة التدريس فى الجامعات للعمل فى الخدمات الطبية المسلحة، ونظراً لما كنت أتمتع به وأنا معيد فى قسم الجراحة تم تكليفى فى يوليو 56، وشاركت فى حرب السويس، وكنت نجماً من نجوم الخدمات الطبية أثناء الحرب وبعدها، وتم ترشيحى من الكلية بالسفر إلى إنجلترا للحصول على شهادة الزمالة من لندن والعودة لاستكمال التعيين فى وظيفة مدرس.

وصلت إلى إنجلترا فى أكتوبر عام 57، والمواطنون الإنجليز والاسكتلنديون فى اكتئاب قومى بسبب خسارة معركة السويس، وخسارة معظم المستعمرات البريطانية فى الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، واستقالة أنتونى إيدين، رئيس الوزارة، بسبب التهاب المرارة (مرارته انفقعت)، وكنت أشعر بالقلق من احتمال سوء معاملة المصريين، خصوصاً أن العلاقات الدبلوماسية ما زالت منقطعة، وأصبحنا تحت رعاية السفارة الهندية، ولكن من حسن الحظ لم نشعر بأى شعور عدائى، وكان فى بالى دائماً شعار عبدالناصر «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عصر الاستبداد». كنت وشاركنى أعداد المصريين الذين استمروا فى إنجلترا أو التحقوا بالبعثات بعد ذلك نتمتع بروح عالية وثقة فى المستقبل، وأشعر أنه فى استطاعتنا اللحاق بما تخلفنا فيه من تقدم، وبالرغم من إغراءات البقاء فى إنجلترا واستمرار العمل هناك، خصوصاً بعد ما حصلت عليه من إنجازات علمية بالحصول على شهادة الزمالة فى الجراحة من أدنبره فى اسكتلندا، وشهادة الزمالة فى الجراحة من لندن، وشهادة الزمالة البريطانية فى الأمراض الباطنية تخصص أمراض القلب، وما حصلت عليه من خبرة فى مجال جراحة القلب المفتوح، لأن عبدالناصر أعطانا الثقة فى مستقبل الوطن، وبالرغم من ملاحظة أحد أساتذة قصر العينى عندما حضر المستشفى وشاهدنى وأنا أقوم بجراحة صعبة بالقلب المفتوح، بعد أن هنأنى، قال: هل تطمع فى تطبيق ما تعلمته هنا فى مصر؟ هذا غير ممكن، وأعتقد أجبت: عندى أمل كبير، وأعتقد أنه بفضل النظام الجديد وقيادة عبدالناصر سأنجح.

عدت للقاهرة فى فبراير 62، وبعد أن عينت فى وظيفة مدرس، وأنا خارج القطر أثناء البعثة، وذلك لأول مرة، توقعت حسن اللقاء والمعاملة فى الكلية والمساعدة فى استكمال مشروعى فى عمل وحدة للقلب المفتوح بالكلية، ولكن رئيس قسم الجراحة، الذى نُقل من قصر العينى إلى طب عين شمس، قد وعد أمام الأستاذ الدكتور حسن على إبراهيم، أستاذ الجراحة، وابن رائد الطب على باشا إبراهيم، وعد بأنه سمع عن ما يسمى حمدى السيد، وأنه عائد إلى قسم جراحة القلب بالكلية، وسيتم تأديبه وتطفيشه، وبدأت مباراة فى المضايقات، وكنت صامداً وأعامله كما تعودت من أستاذى الكبير فى مستشفى همرسميث، وكلية الدراسات العليا، عندما كنت أخاطب أستاذى باسمه مجرداً وأناقشه فى جميع المشاكل التى أواجهها وأجد منه التعاون والتفاعل، وفى بلدى أعانى من جنون عظمة رئيس قسم الجراحة، ولكن رفع معنوياتى أن جمال عبدالناصر منحنى وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى فى عيد العلم أكتوبر 62، الذى كرّم فيه نخبة من الأدباء والفنانين والإعلاميين، على رأسهم الدكتور طه حسين، والأستاذ عباس العقاد، والأستاذ توفيق الحكيم، والسيدة أم كلثوم، والأستاذ محمد عبدالوهاب، وغيرهم، ومعهم الدكتور حمدى السيد، شعرت أن الرئيس يشعر بما أصابنى من إحباط، وفى نفس الوقت صدر قرار المشير عبدالحكيم عامر بتكليفى بالعمل فى مستشفى المعادى الجديد لإنشاء قسم حديث للقلب وجراحة القلب المفتوح، عند افتتاح المستشفى فى أواخر عام 65، وتسلمت العمل فعلاً، ومنحنى جمال عبدالناصر نوط الواجب العسكرى من الدرجة الأولى، بالاشتراك مع زميلى الدكتور عبدالخالق ترزاكى، وأستاذى الدكتور كمال سعيد، أستاذ التخدير والرعاية المركزة، وذلك لإجراء أول جراحة للقب المفتوح فى مستشفى الطيران.

شعرت بمزيد من الارتياح والأمل فى المستقبل، قضيت عام 66 فى مستشفى المعادى لتجهيز قسم القلب وجراحة القلب على أحدث مستوى، وبداية العمل فى جراحة القلب المفتوح، ولأول مرة فى أفريقيا والشرق الأوسط، مع نشاط واستقرار والأمل فى تحقيق الأحلام بالرغم من نصيحة أستاذ قصر العينى الذى حاول إقناعى بأنه لا أمل فى أى تقدم، وأن أحلامك هى أحلام العصافير، وأن أبقى حيث أنا، ولا جدوى من عودتك إلى مصر.

كنت قبل انتقالى إلى مستشفى المعادى وجدت من واجبى أن أقدم مذكرة للعميد، ثم للدكتور حسين سعيد، وزير التعليم، عن رأيى فى إصلاح أحوال كلية الطب والمستشفيات الجامعية، والنصح فى تطبيق نظام التفرغ الكامل لبعض أعضاء هيئة التدريس، أسوة بالنظام البريطانى، الذى عايشته لمدة أربع سنوات فى كلية الدراسات العليا فى لندن، وشعرت أننى قد أديت واجبى نحو الجامعة التى علمتنى.

فى أكتوبر 66 التقيت بأحد الأساتذة وأخبرنى أنه قد صدر قرار السيد رئيس الوزراء، السيد زكريا محيى الدين، بنقلى إلى وزارة الصحة، انزعجت جداً وذهبت إلى مكتب رئيس الوزراء، وقابلت مدير المكتب مصطفى عبدالعزيز، وأخبرنى أن رئيس الوزراء يقول إننى أطجن لأساتذتى ولا أعطيهم الاحترام الواجب، وتركت له مذكرة أننى يا سيدى لست بالجامعة حالياً وبعدت عن التطجين ومكلف للعمل فى القوات المسلحة واشتكيت كل الجهات من رئيس الوزراء ووزير التعليم ووزير الصحة، الوزير الوحيد الذى تعاطف معى هو المغفور له الأستاذ الدكتور النبوى المهندس، أحد أهم وزراء الصحة فى عصر الثورة، الذى قال إنه ليس لديه درجة ثانية موازية لنقل أستاذ مساعد لأننى لست فى حاجة إليه، ثم علمت أن السيد رئيس القسم كتب إلى وزير التعليم يشكونى بأننى لا أحترمه واقترح نقلى أو رفدى، وشكّل السيد الوزير لجنة من رئيس قسم جراحة عين شمس، ورئيس قسم جراحة القلب بقصر العينى، ورئيس قسم جراحة الصدر بالإسكندرية، الأستاذ المحترم لطفى دويدار، وصدر اقتراح بنقلى إلى وزارة الصحة من هذه اللجنة، ثم استقال أو أقيل زكريا محيى الدين، وجاء صدقى سليمان ووزير جديد للتعليم، وأرسلت شكاوى بالموضوع لكليهما، ولم أجد استجابة، فقررت اللجوء إلى المشير عامر؛ لأنه كان يخصص يوماً فى الأسبوع لمقابلة الضباط أصحاب المشاكل ويأمر بحلها، تفاءلت، وقبلها قابلت رئيس الأركان لعرض المشكلة، وقابلت المشير ومعه الفريق فوزى والفريق حسن صبرى، مدير الخدمات الطبية، قابلنى المشير بتعاطف وبشاشة، وعرضت عليه المشكلة، أجاب: أنا عندما قررت تكليفك للعمل فى المستشفى المعادى لم أفعل ذلك بصفتك أستاذاً بالجامعة ولكن بصفتك حمدى السيد صاحب الخبرة والتأهيل العلمى المطلوب لإعداد مركز متقدم لأمراض وجراحة القلب، وأنا سعيد لأنك تقوم بالعمل خير قيام، وأنا أعطى الدكتور حسن صبرى التعليمات أن تدخل الجيش العامل فى أى وقت تريد وتحصل على جميع حقوقك.

قلت: سيادة المشير نقلى من الجامعة هو إصابة هائلة لكرامتى وتاريخى الذى أعتز به، ولا يشرفنى أن التحق بالجيش وأنا موصوم بهذه التهمة، وإذا لم تحل مشكلتى أرجو من سيادتكم الموافقة على فك تكليفى لأننى لن أبقى فى مصر، حاول الفريق فوزى أن يفترسنى لأننى تجرأت بهذا القول أمام السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية، ولكن أشار له المشير أن يتوقف، وقال أنا أتعاطف معك وإن شاء الله أحاول حل هذه المشكلة.

ولكن يبدو أن المشير قد نسى أو تناسى أن يفعل شيئاً فى هذا الموضوع، واستمر الحال كما هو، نصحنى الأستاذ مصطفى المستكاوى، رئيس تحرير المساء، أن أكتب للرئيس عبدالناصر بشكواى، وأن الأستاذ سامى شرف صديقه وهو يأمل أن يعرض الشكوى على سيادة الرئيس.

وقد تم فعلاً، واطلعت على تأشيرة الرئيس: «السيد رئيس الوزراء الدكتور حمدى السيد معروف لى شخصياً وهو قيادة طبية نعتز بها وأرجو حل مشكلته».

يا فرحتى وهنايا برب نعمتى وحبيبى الذى أعاد لى حقى.

طلبنى تليفونياً السيد أمين هويدى، وزير شئون مجلس الوزراء ومدير المخابرات العامة، وصديقى، حيث إننى كنت حاضراً ومشاركاً فى علاج زوجته المريضة بالقلب فى مستشفى همرسميث بلندن، وأخبرنى أن مجلس الوزراء ناقش موضوعى وتأشيرة السيد رئيس الجمهورية وقرر عودتى للجامعة، وفى نفس الوقت صدور قرار من وزير الحربية، شمس بدران، بدخولك الجيش العامل.

يا معالى الوزير، مع شكرى لسيادتك وللسيد رئيس مجلس الوزراء، فإننى أرفض هذا القرار، إما أن يلغى قرار النقل أولاً، وأن يبقى دخولى الجيش العامل عندما أريد وليس بالإكراه، ثم أعدت الكتابة للسيد الرئيس وقلت له يا سيادة الرئيس أنا أرجو أن يلغى قرار نقلى كأن لم يكن، وإلا أن تسمح لى أن أغادر الوطن لأماكن كثيرة تطلبنى للعمل بها، وعُرض هذا على السيد رئيس الجمهورية الذى أشّر على الطلب بأن يعود للجامعة فوراً.

Rochen Web Hosting