رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

تلك الأفلام

قسم : مقالات
الأحد, 13 سبتمبر 2020 15:58

لا يستطيعون تحمُّل الحقيقة.. جملة قالها الأستاذ الفرنسى للطالب المصرى الذى يجهز لنيل درجة الدكتوراه فى رواية «تلك الأيام» لفتحى غانم. جاءت الجملة فى سياق تعليق الأستاذ على رغبة الطالب فى كتابة التاريخ الحقيقى لبلاده. قال له إن قومك لا يحتملون الحقيقة، لذلك فالأفضل أن تكتفى بقول ما يمكن للناس احتماله.

خارج دائرة التاريخ يعمل كثيرون بهذه النصحية، فيجمعون كلمات من الشرق والغرب، من دواليب الحقيقة والزيف، من فوق أرفف الواقعى والمتخيل، ويقدمون للناس كلاماً يبدو محبوكاً، يعتمدون فى الإقناع به على «الطبخة»، وليس صدق المعلومة أو احترام عقل من يسمع أو يقرأ أو يشاهد.

أحياناً ما يعمل الإعلاميون طبقاً لهذه القاعدة، فيضعون الحقائق تحت المكاتب، ويلجأون إلى أسلوب الأفلام أو المسلسلات العربى وهم يقدمون الأحداث والوقائع إلى الجمهور. «الأفلمة» ليست سيئة فى حد ذاتها، لكن المشكلة أن من يعتمدون عليها يقدمون أفلام أبيض وأسود فى زمن «الألوان». لا ليس ذلك من الإنصاف!. فمستوى جودة أفلام الأبيض والأسود فى الستينات يتفوق على مثيلتها المعاصرة بدرجة كبيرة، على مستوى الحبكة فى أقل تقدير.

أفلام الستينات كانت تعمل بنصيحة الأستاذ الفرنسى، فتخلط ما بين الحقيقة والكذب، والواقعى والمتخيل، لكن بصورة محبوكة تدفع المشاهد إلى التصديق، فصناعها كانوا أكثر احترافية، وكانوا حريصين على الجودة. أفلام «إعلام اليوم» لا تأخذ من زمن الأبيض والأسود سوى اللونين، لأنها ببساطة لا تعتمد على حبكة بل على «فوضى»، ولا تهتم بالتماسك العقلى لمحتواها، بل بـ«الحشو» و«الرص»، لذلك تتحول إلى أفلام كوميدية أو أفلام أبيض وأسود محروقة، مهما كانت درجة جدية الفكرة أو الموضوع الذى تدور حوله.

ربما تكون مواقع التواصل الاجتماعى قد لعبت دوراً فى دفع الإعلام إلى «الأفلمة»، لأن الأفلمة ببساطة تكاد تكون أسلوب حياة على هذه المواقع، لذلك تجد أن جزءاً من جمهور الإعلام فى أوروبا والدول المتقدمة بدأ يزهد فيها ولا يعتمد عليها فى الحصول على معلومة أو فكرة، بل تاب وأناب وعاد إلى وسائل الإعلام التقليدى، تلمساً للحقيقة، وثقة فى أن هذه الوسائل ما زالت تحتفظ بحد أدنى من القواعد المهنية فى مراعاة أصول رواية أى قصة أو حدث. وقد ألقى هذا التحول بطوق نجاة للجرائد الورقية، حيث عاد البعض إلى قراءتها وارتفعت أرقام توزيع بعضها فى وقت توقع فيه الكثيرون أن سهم القضاء نفذ فيها، ولم يبقَ لها إلا التشييع إلى مثواها الأخير فى فاترينات المتاحف.

الوضع فى عالمنا العربى يختلف، فما زال صناع الإعلام حتى اليوم مصرّين على «الأفلمة». ما تعرفش السر فى ذلك إيه.. وهل يعود إلى زناخة عقل.. أم إلى عجز وانعدام المهارة والقدرة على إنتاج المحبوك المقنع؟

المضحك فى أمرنا أن بعضنا يصرون على الظن الحسن بالإعلام، ويتصورون أن أدواته قادرة على التسكين أو التحريك. هذا التصور لا يعبر إلا عن هلاوس وضلالات، لأن الواقع وحده هو القادر على التحريك، فتزاحم أسباب التعب والتململ فيه يؤدى إلى الحركة، وسيطرة دواعى الرضا والحمد والاقتناع تؤدى إلى السكون والاستقرار. الواقع هو الحكم.. وهو الميقاتى الوحيد فى ملعب الحياة.

Rochen Web Hosting