رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

"يحسب أن ماله أخلده"

قسم : مقالات
الأحد, 27 ديسمبر 2020 19:49



لا يقتصر مفهوم «الشطارة» فى دنيا التجارة والأعمال على الحرفية فى جمع «المال»، أو المهارة فى نسج العلاقات مع رجال السلطة وفقط، بل يتمدد أيضاً إلى فكرة «انتهاز الفرص». وقد كان «الخواجا» أحمد بن عبدالسلام شهبندر تجار مصر عام 1791 نهازاً كبيراً لا يترك قرشاً يمكن أن تصل إليه يداه إلا وينتهبه، حتى ولو كان فى جيب أخيه.

كانت الأعمال التجاربة لـ«ابن عبدالسلام» تقتضى منه الكثير من الأسفار إلى الهند والحجاز وغيرهما من البلاد. وكان لعائلة «عبدالسلام» مركز تجارى فى الحجاز، بل وكان للأب هناك زوجة وابن يعد أخاً شقيقاً لشهبندر التجار «الخواجا أحمد»، وقد حدث والشهبندر فى واحدة من زياراته إلى الحجاز أن مات أخوه الذى كان يعرف بـ«العرايشى».

كان «العرايشى» -كما يقول «الجبرتى»- واحداً من أكابر التجار ووكلائهم المشهورين وذا ثروة عظيمة فتوفى وصادف وفاته وصول «ابن عبدالسلام» إلى الحجاز فوضع يده على ماله ودفاتره وشركاته، وتزوج بزوجته وأخذ جواريه وعبيده ورجع إلى المحروسة بعدها ليتسع حاله ويوسع داره ويبتنى داراً جديدة وتربو تجارته ويتولى وظيفة شهبندر تجار مصر. لم يتردد «الخواجا أحمد» فى أن يرث أخاه فى ماله وزوجته وأولاده وعبيده وجواريه. فالتاجر الشاطر بمقاييس ذلك العصر وغيره من العصور السابقة أو التالية لا بد أن يكون نهازاً للفرص، يعرف كيف يجلب المال من أى طريق، ويفهم كيف يحبسه فى خزائنه دون أن ينفق منه على أحد، إلا من يساعده على زيادته.

ضرب الطاعون مصر عام 1791، وساءت أحوال الناس، وهدهم الجوع والمرض وارتجفت قلوبهم وارتعدت فرائصهم وهم يرون مشاهد الموت محيطة بهم فى كل مكان.

يقول «الجبرتى» فى «عجائب الآثار»: «لم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه فلا تجد إلا مريضاً أو ميتاً أو معزياً أو مشيعاً أو راجعاً من صلاة جنازة أو دفن، أو مشغولاً فى تجهيز ميت أو باكياً على نفسه موهوماً». الحزن كان عميماً، ومن لم يمت بالطاعون مات بالجوع.

ولو أنك فتشت فى زوايا ما يحكيه الجبرتى عن أى دور للشهبندر «الخواجا أحمد» خلال «طاعون 1791» فلن تظفر بحرف واحد، لا يذكر «الجبرتى» أن الشهبندر تبرع من ماله لأحد، أو واسى ببعضه جائعاً، أو مفجوعاً فى أب أو أم أو ولد.

أقول لك ذلك لأن «الجبرتى» نفسه يحكى أنه مات فى طاعون ذلك العام «إبراهيم بن محمد الغزالى الشرايبى»، وكان «من أجل أهل بيت الثروة والمجد والعز والكرم».

يصف الجبرتى هذا النمط الخيّر من رجال المال فى ذلك العصر بقوله: «كان حريصاً على فعل الخير ومكارم الأخلاق وتقديم الزاد ليوم المعاد، والصدقات الخفية والأفعال المرضية، التى منها تفقد طلبة العلم الفقراء والمنقطعين ومواساتهم ومعونتهم، ويملأ الأسبلة -جمع سبيل- للعطاش، ولا يقبل من فلاحيه زيادة على المال المقرر، ويعاون فقراءهم ويقرضهم التقاوى واحتياجات الزراعة وغيرها، ويحسب لهم هداياهم من أصل المال».

كان «الشرايبى» نموذجاً نقيضاً لـ«الخواجا أحمد». فالأخير -خلافاً للأول- لم يكن يعطى إلا من يعتبره سبباً فى زيادة ماله من المؤثرين من رجال السياسة أو النفوذ أو المطنطنين فى صالحه.

لم يكن شهبندر التجار وكبيرهم يتصور أن يموت بالطاعون كما يموت الفقراء.

فمثله كمثل غيره من أصحاب المال والأعمال ممن «يحسب أن ماله أخلده»، لكن المقدور وقع والمحذور أتى، فأصيب «الخواجا أحمد» بالطاعون ومات به فى شهر شعبان 1205 هجرية.

ومن العجيب أن ما فعله الشهبندر مع أخيه «العرايشى» بعد وفاته فعله معه تلميذه «أحمد المحروقى» بعد أن مات كبيره مطعوناً، فاستولى المحروقى -كما يحكى «الجبرتى»- على أموال الخواجا وبضائعه وحواصله وسكن داره وتزوج بزوجاته.

والأنكت أنه سار على نهج أستاذه فصانع الأمراء وداهن أهل الحل والعقد حتى ورث منصبه وأصبح أحمد المحروقى «شهبندر تجار مصر» بعد بضعة أيام من دفن الشهبندر القديم بزاوية العربى بالقرب من «الفحامين».. وسبحان من له الدوام.

Rochen Web Hosting