رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

عليكم دعم عبدالناصر

قسم : مقالات
الإثنين, 02 أغسطس 2021 23:35

كانت الخارجية الإسرائيلية جهة تعامل وجيه غالى الرسمية طوال زيارته إلى إسرائيل، لم يذهب إلى جهة أخرى غيرها، وهناك اسم محدد داخل الوزارة «زورى جبابى» كان يتعامل معه أو «ضابط الاتصال»، وبتعبير وجيه فإن جبابى «الرجل الذى كلف برعايتى هناك»، وكان ودودا معه، طوال الرحلة، متفهما مطالبه، جبابى فى الأصل يهودى عراقى، هاجر إلى إسرائيل وعمل بالخارجية، عدد كبير ممن التقاهم وجيه داخل الوزارة، كانوا فى الأصل يهودًا عراقيين. هل قصد ذلك؟، أى أن يكون احتكاكه مع إسرائيليين من أصول عربية لسهولة التعامل معه، أم أنها الأوضاع الوظيفية داخل الوزارة؟. بالنسبة له لم يكن الأمر يعنى شيئا، صحيح أنه مصرى، لكنه يعيش فى أوروبا منذ سنة١٩٥٠، هو كذلك عاش حياته فى أوروبا كمواطن أوروبى وليس مجرد زائر عابر، ولذا فإن قصر تعامله داخل الوزارة مع اليهود العراقيين، كان ترتيب الخارجية الإسرائيلية، ويبدو أنهم أرادوا عدم إبداء اهتمام كبير به وبزيارته، مثلا لم يسمح له بالاقتراب من مكتب وزير الخارجية ولا سكرتارية المكتب، رغم أن الوزير كان «أبا إيبان»، الذى كان يجيد العربية، وعاش فى القاهرة فترة أثناء الحرب العالمية الثانية، أقام فى شقة بشارع طلعت حرب، كان وقتها مستشرقا، يهتم بالثقافة المصرية الحديثة، قرأ جيدا طه حسين وأحمد أمين، تعرف على توفيق الحكيم وأعجب بروايته «يوميات نائب فى الأرياف»، تحدث الحكيم بعد توقيع معاهدة السلام مع إسر ائيل عن الصداقة التى كانت بينهما، قرأ «أبا إيبان» كذلك «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل (باشا) وتعرف عليه، وكان يصنف من الحمائم فى حكومة إسرائيل، ومع ذلك تجنب إيبان مقابلة وجيه، لم يعتذر ولم يوافق.

■ كمهمة صحافية، مقابلة وزير إسرائيلى، يزيدها نجاحا ويضفى عليها أهمية، وجيه كان يعول كثيرا على هذا اللقاء، ليسمع الجميع صوته، خاصة على مستوى صناع القرار فى القاهرة وفى تل أبيب، فضلًا عن العواصم الأوروبية، لكن كان من الواضح أن الخارجية الإسرائيلية لا تريد لزيارته أن تجاوز حدود السياحة والكتابة العابرة عن إسرائيل، كتابة سياحية، بلا عمق وبلا تدقيق، وأن لا يكون لها أى طابع رسمى، وربما لأن وجيه لم يكن يعبر عن أى جهة، بل إنه لا يعبر حتى عن المصريين والعرب، أقصد لا يمثل جهة مصرية، هو حالة خاصة، يمثل نفسه فقط، وربما كان هناك فى لندن من أراد اختبار الإسرائيليين، إلى أين يريدون أن يصلوا مع العرب ومع المصريين تحديدًا، بعد كل ما حققوه؟.

■ وجيه كان مأمونًا للإسرائيليين، على الأقل فى الظاهر، حين كان فى ألمانيا، خاض صراعات عديدة هناك بسبب ما جرى لليهود على يدى هتلر، حضر محاكمات عدد من النازيين، احتقر من شككوا فى أرقام ضحايا المحرقة وقالوا إنهم كانوا٦٠٠ ألف فقط وليسوا (٦) ملايين، استفزه أن أحد الأحزاب الألمانية فى مدينة دوسلدورف، وضعوا صورة كبيرة لأدولف هتلر داخل المبنى، كان متألما بصدق لما جرى لليهود ومتقززا من الفاشية وأفكارها، وبإزاء ذلك كله، يقول هو «اعتدت على أن أقدم نفسى باعتبارى يهوديًا»، وبسبب ذلك طردته البائعة من محل البيرة، صاحت فيه «من بين كل الناس تظهر وجهك هنا؟».

■ أما فى لندن، كان لديه أصدقاء ومعارف كثر من الإسرائيليين، بلا غضاضة.

■ والواضح أنه لم يكن يشعر بأى انزعاج تجاه وجود إسرائيل، كما كان حال كثيرين من أبناء جيله، كان فى التاسعة عشرة من العمر حين أعلن قيام إسرائيل، وفى مراهقته بالقاهرة كان له أصدقاء وصديقات من اليهود، وكان يريد للمنطقة أن تعيش فى سلام، فوق ذلك كان مشبعا بالأفكار الاشتراكية، القريبة من الماركسية، وكان الرأى الغالب وسط هذا التيار التعاطف مع تأسيس دولة إسرائيل، وأن تحالفًا يجب أن يقوم بين الطبقة العاملة فى العالم العربى (البروليتاريا) مع الكيبوتزات (المستعمرات) فى إسرائيل لإسقاط الرجعية المسيطرة فى البلدان العربية.

■ بالتأكيد كان كل ذلك معروفًا عنه لدى الإسرائيليين، لكن ربما كانت لديهم شكوك أخرى حوله، منها أنه كان يلتقى باستمرار فى لندن زملاء قدامى من «فيكتوريا كولدج»، يجيئون من القاهرة وكانوا على علاقة جيدة بالدولة المصرية، بل إن أحدهم كان فى مهمة حكومية رسمية بلندن، وهو كان فى حديثه، يبدو مصريا بعمق، رغم كل انتقاداته لنظام عبد الناصر، باختصار كان معارضا لإجراءات بعينها وليس كارها لمصر، ومنها إقدامه على هذه الرحلة، ولم تتخذ القاهرة أى إجراء حياله، أقول ربما، لكن ليس هناك ما يؤكد.

■ فى بعض اللحظات بدا له أن مقابلة وزير الخارجية على وشك الحدوث، لذا أعلن أن حديث الوزير سوف ينشر حرفيا، بلا أى تدخل منه، وأن النشر سوف يكون سريعا «فورا»، وأن المقابلة سوف تبرز جيدا فى الصحيفة، وأكد له «جبابى»، أنه نقل ذلك إلى سكرتارية الوزير.

■ المهم هنا ماذا لو قابل الوزير، ماذا كان يريد أن يقول له؟.

■ فى لحظة أفصح فى سهرة مع «جبابى» وصديق آخر هو «شلومو هليل»، كان شلومو صديقه من لندن، لكنه إسرائيلى، من أصل عراقى، وقال له من قبل فى لندن إنه ليس لديه أهم من إسرائيل، «هليل» كان فى تلك الجلسة وتحدثوا عن موقف إسرائيل من حرب استقلال الجزائر وعدوان ٥٦ على مصر وموقفها من الأبارتايد فى جنوب إفريقيا، «هليل» وافقه الرأى فقط فى مسألة ٥٦، هنا أعلن وجيه رأيه أو رسالته إلى أبا إيبان، الرسالة نصا كالتالى: «ما الطرق، بالنسبة إلىّ كمصرى، والإجراءات التى ينبغى على إسرائيل اتخاذها، إن كانت تريد حقا السلام مع العرب؟:

١- الاعتراف والقبول بحقيقة أن عبد الناصر هو أملهم الوحيد فى السلام، وأن عليهم دعمه بدلًا من إذلاله فى كل منعطف.

٢- التوقف عن دعم السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وبعض الأشياء الأخرى (المساهمة بشكل فعلى فى إعادة توطين اللاجئين)».

■ هنا يقر بأمر واقع هو وجود عبد الناصر وأنه لا بد من دعمه، فهو الزعيم القوى، وهو أمل السلام فلا يجب التربص به، قال ذلك داخل تل أبيب وأمام عدد من الإسرائيليين، بينهم مسؤول بالخارجية الإسرائيلية، وطلب أن ينقل قوله إلى الوزير، ومن المؤكد أنه قد نقل إليه حرفيا، إن لم يكن مسجلا بصوته.

■ فهم هو من «هليل» أن الوزير سوف يستقبله قبل أن يغادر عائدا إلى لندن، وتحمس هو بأن «المصريين سيكونون ملزمين برؤية الأمر بوصفه بادرة حسن نية»، وافقه جبابى على ذلك، قائلًا: «هذا سيكون ممتازا».

■ عمومًا أعلن ما لديه حتى يبلغ الوزير، إن لم يقله هو له.

■ هذه الرؤية الحالمة، لم تكن الحكومة الإسرائيلية على استعداد لسماعها، كانوا فى سكرة النصر الخاطف الذى حققوه، لكن كان هناك قلق فى عدد من العواصم الكبرى بإزاء تلك السكرة أو غرور القوة.

■ كان التصور لدى إسرائيل وبعض دوائر الغرب أن حرب٦٧ هى النهاية، بمقتضاها يخرج عبد الناصر من المشهد وقد يحاكم وتبدأ مرحلة جديدة يفرض فيها العالم شروطه، كما حدث مع ألمانيًا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وبدا أن ذلك قيد التحقق مع إعلان عبد الناصر التنحى، وصدور بعض الصغائر من عبد الحكيم عامر وبعض المتحلقين حوله، هذه المعادلة أفشلها الشعب المصرى، الذى يثبت دائما أنه أذكى وأكثر وعيا، حيث خرج متمسكًا بعبد الناصر، يومى التاسع والعاشر من يونيو، وكان معنى ذلك استرداد الكرامة وعدم اعتبار ما جرى هو نهاية الطريق، لذا قامت معركة رأس العش بعد الهزيمة مباشرة، وبدأت حرب الاستنزاف، باختصار لن تنعم إسرائيل بما حققته، أى لا سلام، وهذا ما لم تكن بريطانيا والولايات المتحدة وحتى الاتحاد السوفيتى تحتمله، فى هذا الإطار وافقت صحيفتان بريطانيتان على رحلة وجيه، باختصار؛ الملف لم يغلق بعد. بريطانيا تحديدا من خبرة احتلال مصر لمدة ٧٤سنة، كانت على يقين أن المصريين لن يقبلوا باحتلال سنتيمتر من أرضهم، فما بالك بسيناء؟.

■ كانت رحلته مغامرة منه، وقد استقبلت باستياء وغضب فى المنتديات الثقافية المصرية، وهذا متوقع، عاد إلى لندن يمارس حياته الاعتيادية، وأقدم على الانتحار فى يناير ٦٩، تاركًا خلفه الكثير من الألغاز.

■ كانت رحلة وجيه بداية، إذ سوف يعقبها، بعد فترة، رحلة أخرى من لندن، هذه المرة إلى القاهرة، سوف يقوم بها ضابط سابق فى المخابرات البريطانية.

 

Rochen Web Hosting