رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

إعلام منزوع الثقافة المدنية والدينية (2 ـ 2)

قسم : مقالات
الجمعة, 29 أكتوبر 2021 10:18

 

 

يُنظر إلى الدين والثقافة والإعلام بوصفها من ركائز القوة الناعمة للدولة، فى مقابل ركائز القوة الصلبة أو الخشنة المتمثلة فى القدرات العسكرية والإمكانات الاقتصادية والموارد الطبيعية والموقع الجغرافى وحجم السكان ونوعيتهم. وهذه القوة الناعمة تستخدم فى إحداث التماسك الداخلى للدولة عبر الوظائف الرئيسية التى يؤديها الخطابان الدينى والثقافى والرسالة الإعلامية فى نشر القيم التى تحض على التعايش والتراحم واحترام التنوع وتفهم الخصوصيات والحريات الفردية والعامة وتعلم الاختلاف وأدب الحوار، وتعزيز القيم والاتجاهات الإيجابية التى تحض على العمل والإبداع والتقدم. كما تستخدم فى تعزيز دور الدولة على المستوى العالمى، فأى بلد يتمتع بوجود علماء دين كبار ومثقفين مبدعين بارزين وإعلام حر مهنى، سيجد طريقا ممهدا للتأثير فى محيطيه الإقليمى والدولى.

وتشترك حقول الدين والثقافة والإعلام فى أنها تتوسل باللغة، ليس بمستواها الذى يقف عند حد الكلام أو التعبير اللفظى فقط، بل بطرق التعبير الأخرى أو «السيمائيات» حيث الإشارات والإيماءات والإيحاءات والعلامات والرموز... إلخ، وتلعب اللغة دورًا كبيرًا فى تحديد عمق وتحقيق جاذبية الخطابات الناتجة عن هذه الحقول الثلاثة.

لقد شهد العقد الأخير، ولاسيما فى العالم العربى، اختلاط الأدوار بين عالِم الدين والمثقف والإعلامى، فكثير من مقدمى البرامج تحولوا إلى واعظين أو قادة رأى، وبعض علماء الدين والمثقفين تحولوا إلى مذيعين، وتزداد هذه الظاهرة تجذرًا بمرور السنوات، وتحول الإعلام إلى قوة هائلة.

ومما لا شك فيه أن الإعلام صار قوة جبارة فى صناعة التغيير، فإنْ عَمِلَ وفق تصور حر خلاق لا يقتصر على الدعاية السياسية أو الترفيه الفارغ الذى يلهث وراء العابر والاستهلاكى، فبوسعه أن يسهم فى تعميق الثقافة والنهوض بالعملية التعليمية، ليس من خلال برامج مدرسية أشبه بالدروس الخصوصية فقط، إنما من خلال برامج هادفة تعزز المعرفة بشتى ألوانها، وتمكن الفرد من امتلاك مهارات التفكير والنقد والحوار.

ولا يمكن أيضا فى هذا المضمار أن نهمل الإعلام الجديد، ولاسيما مواقع التواصل الاجتماعى التى عملت على تعزيز حرية التعبير، لكنها على النقيض، فقد زادت من مساحات صناعة الكراهية وإطلاق الدعاية السياسية الفجة والشائعات والسجال العقائدى ونشر الفكر المتطرف وتجنيد الإرهابيين وتشويه المختلفين فى الرأى والموقف.

والمشكلة أن الإدارات الحكومية فى بعض الدول العربية تستعملها فى الرد على خصومها أو شن حرب نفسية عليهم أو توجيه المجتمع، فإن انتبهت إلى توظيفها فى تعميق الوعى والتصدى للتطرف وتعزيز القدرة على الحوار وتفريغ الطاقات الغضبية بشكل علنى سلمى، سيكون هذا أجدى، ووقتها يمكن لهذه المواقع أن تلعب دورا ثقافيا وتعليميا حقيقيا.

فى الحالين، سواء الإعلام التقليدى أو الجديد، فإن التعويل عليه فى نشر الثقافة فى قيمها ومقولاتها ومضامينها التى ترمى إلى الارتقاء بالمعيشة مسألة تحتاج إلى اهتمام ورعاية، لم تحظ بهما فى الماضى، لجهل أو غفلة أو على الأقل عدم دراية بأهمية الثقافة فى التمهيد للتطور المادى، وأن المعانى يجب أن تسبق المبانى.

وهذا الدور المنتظر أو المأمول يجب ألا يقف عند حدود تثقيف الإعلاميين الحاليين، الذين يعانى أغلبهم من ضحالة فى الفكر وضبابية فى الرؤية وانحياز إلى العابر والسطحى والسلطوى وما يعود عليهم بالنفع الذاتى، ولا حتى بدفع مثقفين ليقدموا البرامج، أو يكونوا ضيوفا دائمين فى برامج جاذبة، إنما بوجود استراتيجية لتعزيز الثقافة بمعناها العام والواسع، الذى لا يقتصر على اعتبارها الكل المركب أو المعقد من الآداب والفنون والمعانى والرموز التى تخاطب العقل والوجدان، إنما أيضا الطقوس وطرائق العيش التى تتسم بالخصوصية وتؤمن بالتنوع الخلاق، ليس فقط فى الأفكار والتوجهات، وإنما أيضا فى التدابير والتصرفات، الآنى منها والموروث.

لكن الوصول إلى الحد الأدنى من هذا المطلوب والمأمول لم يعد مقبولا لدى من يمتلكون أجهزة الإعلام، سواء كانت الدولة أو رجال المال والأعمال، فالأولى ليست معنية بزيادة الجرعة الثقافية، لأنها ترى أن تعميق الوعى لدى قطاع عريض من الناس قد ينبههم أكثر، وفق القاعدة التى قالها الإمام على بن أبى طالب، رضى الله عنه وهى: «ما مُتِّع غنى إلا بما أفقر به فقير».. كما أن هؤلاء بحكم تكوينهم النفسى والذهنى وخبرتهم العملية يميلون إلى الاستهلاكى والمظهرى وما يسلك الطريق الأقصر نحو الربح الوفير.. ومن هنا تخرج الثقافة من حساباتهم.

ومن بين هؤلاء يأتى صانعو الإعلانات وممولوها، الذين يميلون بحكم المنفعة والوظيفة إلى البرامج الخفيفة التى تجذب أكبر عدد من المشاهدين بغض النظر عن مضمونها أو دورها فى زيادة الوعى أو الدفاع عن المصلحة العامة، ولم يعد هؤلاء يكتفون بالتعليق على البرامج أو التقدم بطلبات جزئية تخصها، إنما يطلبون برامج بعينها، ويتدخلون فى تحديد المضمون ومن يقدمه وبأى طريقة.

على الوجه الآخر، يتحمل المثقفون أنفسهم جزءا من المسؤولية، فقد فشلوا فى الغالب الأعم فى تقديم الثقافة بلغة يسيرة على الأفهام، فى مجتمعات تعانى من الأمية الأبجدية أصلا.. ناهيك عن الأمية الثقافية والسياسية والتقنية.. كما أنهم ضيّقوا مفهوم الثقافة ليقصروه على الآداب والفنون والعلوم النظرية، ولم يتمكنوا حتى الآن من تقديم ثقافة تمشى على الأرض وتعايش الناس وتشاطرهم أفراحهم وأتراحهم.

كل هذه عوامل جعلت إعلامنا بلا ثقافة، فى وقتٍ نعول عليه فى أن يعبر بنا مشكلة تردى الوعى فى مجتمعنا.. ولأن فاقد الشىء لا يعطيه، فعلى الإعلاميين أن يتثقفوا أو يفتح مالكو وسائل الإعلام الباب لأصحاب المعرفة ليصلوا إلى الناس بغزارة عبر الصفحات والشاشات والميكرفونات.

 

Rochen Web Hosting