رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

التفكير فى حلم العدالة

قسم : مقالات
الجمعة, 25 فبراير 2022 10:42

كنت أقرأ كتابًا بعنوان مشوق «مُتْ فارغًا»، للكاتب تود هنرى، يتكلم عن أكثر الأراضى ثروة في العالم، وينفى أنها بلاد الخليج المليئة بالنفط، ولا بلاد إفريقيا المليئة بالماس، ولا البلاد الغنية بالتكنولوجيا، ولكن الأغنى هي المقابر.. لأنها تحتوى على ملايين البشر الذين رحلوا عن الدنيا وهم يحملون ملايين الأفكار التي لم تخرج إلى النور ولم تتم الاستفادة منها.

 

الكتاب يتكلم عن أن ثروة البشرية هي الأفكار. ويحفز الكاتب كل إنسان أن يُفرغ أفكاره ويوثقها لتستفيد منها مجتمعاتهم، وتحويلها لشىء ملموس قبل فوات الأوان وقبل أن تبقى مخبأة في القبور دون أن ترى النور وتظل مدفونة مع أصحابها تحت التراب.

«لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل أفضل ما لديك، ومُتْ فارغًا بعد أن تملأ حياة البشر بأفكارك».

رأيته تعبيرًا بليغًا وغير تقليدى، وذكّرنى بكتاب الأستاذ العقاد «التفكير فريضة إسلامية» الذي قرأته وأنا في المرحلة الثانوية، ثم بما قاله ابن رشد لتلميذه الذي كان يبكى على كتبه عندما أحرقها الحكام الجهلة ومتطرفو الفكر، وقال: «إذا كنت تبكى حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعًا، أما إذا كنت تبكى الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهى تطير لأصحابها».

نعم للأفكار أجنحة تطير بها، وجاء إلى ذهنى عبارة قرأتها تقول:

«حين يطرق الرقى باب أمة من الأمم يسأل: أهنا فكر حر؟، فإن وجده دخل.. وإلا مضى».

وقول ديكارت العظيم «أنا أفكر، إذن أنا موجود».

وأنا مؤمن بأن ما لا يوثق من الأفكار لم يوجد. لذلك فقد أخذت على عاتقى أن أسجل أفكارى، وأُطبق ما أستطيع منها، وأنشر خلاصة تجاربى لمن يمكنه الاستفادة منها وبها، واضعًا في اعتبارى قول جواهر لال نهرو «عندما نفكر في الغايات يجب ألا نتجاهل الوسائل».

ومن داخل هذا المنظور، فأنا أنظر لشعار الجمهورية الجديدة بجدية، بل وألتزم بطرح الأفكار التي تساهم في بنائها وبناء مستقبل مصر.

لذلك فإننى مع مجموعة من الشباب والخبراء والسياسيين نجتمع بين الحين والآخر، لا لنسأل، كما يفعل العديد من الناس، ماذا يقصدون بالجمهورية الجديدة؟، وكأننا في انتظار ما سيمليه علينا آخرون، بل نتحاور في كيف نكون فاعلين بأفكارنا في بناء هذه الجمهورية.

لم نختلف، كبارًا وشبابًا، في أن قلب الجمهورية الجديدة هو نظام العدالة الناجز، الذي بدونه لا تقوم للدولة قائمة.. وأن هناك وجوبية لإصلاح نوعى وفكرى لمؤسسات العدالة ومؤسسات إنفاذ القانون «الشرطة». هذه الدعامة هي واحدة من أهم دعامتين لبنيان الدولة المدنية الحديثة، بجانب فتح آفاق المعرفة من بوابة التعليم والتعلم والثقافة.

إن العدالة غير الناجزة أو البطيئة أو الانتقائية وإحساس المواطن بالظلم ينافى وجود الدولة المدنية الحديثة. ولتطوير هذه المؤسسة علينا اتخاذ بعض القرارات المهمة والسعى إلى استدامتها.

إن العدل هو أساس الحكم، وحتى قبل نشوء النظم الديمقراطية الحديثة، كان القاضى هو سند الدولة مع الحاكم.. والآن في إطار التوجه لدولة مدنية حديثة، وبناء أسس وركائز مصر الجديدة، فإن مؤسسة القضاء ونظام العدالة يجب أن يكون في القلب.

إن دولة الحق والقانون تقوم على أساس استقلال القضاء وفصل السلطات وحماية حقوق الإنسان والأقليات، ودور العدالة لا يتحقق إلا بتأكيد أن فصل السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، يأخذ معناه الحقيقى فقط عندما تخضع كل السلطات للقانون. فالتشريع لا يمكن أن يعبر عن إرادة الأمة إلا في حالة احترام حقوق كل المواطنين، والسلطة التنفيذية لا يمكن أن تؤدى وظائفها وتمارس سلطتها التي أعطاها لها الشعب بالانتخاب الحر بدون احترام للقوانين وضمانات حقوق المواطنين.

وكما أن الحرية تنقلب إلى فوضى إن لم يضع لها القانون إطارًا، فإن السلطة التي يمنحها الشعب للحكومة تنقلب إلى قهر واستبداد إن لم يردعها احترام الدستور بوجوب تداول السلطة وينظم عملها القانون.

أضيف أنه مهما كانت الضغوط فإن اللجوء إلى استخدام المحاكم الاستثنائية يحد بشكل كبير من التمتع بحقوق المواطنين، فالأمر لا يتعلق فقط بالحقوق الإجرائية، كالحق في محاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة ومحايدة ومنشأة بقانون، وخاضعة لإجراءات محددة سلفا في القوانين، بل كذلك بالحقوق التي لا يجوز المس بها، حتى في حالات الطوارئ والاستثناء.

إن إقامة وترسيخ دولة الحق يقوم أولًا وأخيرًا على الدور الذي من الممكن أن يضطلع به الجهاز القضائى بشكل محايد ومستقل في إخضاع باقى السلطات الأخرى للقانون، وفى حماية حقوق المواطنين.

يتعين على مصر، في الجمهورية الجديدة، أن تؤكد في الدستور والقوانين وسياساتها المعلنة على الاستقلال الكلى الفعلى للسلطة القضائية عن باقى أجهزة الدولة. فالمحاكم المستقلة والنزيهة هي أساس النظام القضائى الذي يضمن احترام حقوق المواطنين.

إننا نبحث عن مبادرة جديدة للحكم، بالاتفاق بين ما نحلم به من دولة مدنية حديثة وبين القوة الحقيقية على أرض الواقع، مبادرة لا تحرم البلاد من إمكاناتها الإنسانية ولا من مؤسساتها الفاعلة الوطنية، مبادرة تعطى للحرية مكانها واحترامها بضبط العدالة الناجزة التي لا تسمح للحرية بالتحول إلى فوضى، ولا بالتلاعب الانتقائى للقانون. مبادرة تسمح لعموم الشعب بالاختيار الحر، وحسن الاختيار لممثليه في البرلمان. هذه هي الفلسفة وراء الكلمة، ولابد أن يتوافق الفعل معها.

وأعود للأفكار، وللحوار، فلا خاب من استشار، ولا عيب من طرح الأفكار والمبادرات، وتجنب المخاوف، والتعلم من تجاربنا السابقة، وتجارب غيرنا.

فلتُعقد الندوات، وتنطلق الأفكار، ولنستمع إلى بعض بحرية، فإن الفكر هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول.

يا سادة إن التفكير هو أساس الحكمة، وكما قال أفلاطون «فنحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إن لم نجرؤ على التفكير».

وفى النهاية «فإن الإنسان ما هو إلا نتاج أفكاره فما يفكر به، يصبح هو» كما قال المهاتما غاندى، ولنَمُتْ فارغين كما قال عنوان الكتاب الذي بدأت به المقال بعد أن نملأ الدنيا بالأفكار.

وأضيف أن الله قد أوجب العدل وجوبًا مطلقًا وأمر بتحقيقه في الأقوال والأفعال والتصرفات والحكم والفطرة والتقييم والشهادة والعلاقات وتكررت كلمة العدل ومشتقاته ثمانى وعشرين مرة في القرآن الكريم، فتارة يذكر الله العدل الذي جاءت به الرسالات السماوية، فقال تعالى في سورة الحديد (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، وتارة يذكر العدل في المعاملات بين الناس يقول تعالى في سورة الشورى (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، وتارة يذكر العدل في الأحكام كما قال تعالى في سورة النساء (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)، وفى موضع آخر جعل الله العدل دليلًا على التقوى، فقال في سورة المائدة (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

 

Rochen Web Hosting