رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

التعليم.. الفرصة للإنقاذ

قسم : مقالات
الجمعة, 14 أكتوبر 2022 17:50

من المفترض أن يقود التعليم حركة التقدم، ولكن فى حقيقة الأمر حركة التقدم سبقت مؤسسات التعليم، فأصبحنا نركض وراء ما يحدث فى الصناعة والتكنولوجيا، وليس العكس.. لكن يظل من يصنعون التقدم ويخترعون ويبدعون ويبتكرون هم علماء وشباب يتخرجون فى نظم التعليم ويصنعون أنفسهم بعد ذلك.
حينما يشترى الإنسان جهاز حاسب آلى، فهو قطعة من الحديد لا قيمة لها إلا بما يمكن تحميله عليه من برامج (سوفت وير)، ويحتوى كل جهاز على سعة تحميل معينة.. وفى الأغلب، فإن غير المتخصص لن يستخدم مما على الجهاز من إمكانات إلا ما يقرب من 10% من هذه السعة، فمن الأيسر للإنسان أن يعيد استخدام ما يعرفه أصلًا ويرتاح لذلك.. كذلك فإن الجسم البشرى بدون ما يحتويه من روح ونفس وعقل ليس له قيمة، وهو ما يفسر تحلله واختفاءه إنْ تم تفريغه من طاقة الروح وتوقف العقل عن العمل، وهو ما يعنى موته.

العقل البشرى لديه سعة عملاقة، ولا نستخدم مما فيه من برامج سوى 7% إلى 8%، وحينما يكون الإنسان عبقريًا ربما يستخدم 9% إلى 10% من إمكانات عقله الجبارة. إن وسيلتنا للتطور هى استخدام إمكانات عقولنا بالتفكير وتعلم المعرفة لاستيعاب ما خلقه الله من سعة فى عقولنا لم نستخدمها بعد.

إن كل ما يخطر على الذهن قابل للحدوث، لأنه لو لم يكن موجودًا فى برنامج العقل (السوفت وير)، لما خطر على البال أساسًا. ومن شاهد أفلام الخيال العلمى فى الخمسينيات والستينيات يدرك أن ما نعيشه الآن أكثر من خيال البشر منذ نصف قرن فقط.

كلنا نقرأ عن تغيرات فى نوعية العمل، فوظائف اليوم قد يختفى أغلبها وتنشأ وظائف جديدة لاحتياجات جديدة.

اقرأ المزيد...

الإنسانية سوف تتغير بناء على قدرات موجودة وتحدث اليوم، وما كان يحدث فى القرن العشرين ربما لن تكون له قيمة فى القرن الواحد والعشرين.. ولكن دونه ما كان يمكن أن يحدث ما يحدث الآن. الإنسان يبنى بالعلم تراكمًا للمعرفة، ودورة الحضارة التى كانت تستغرق آلاف السنين ثم تقلصت إلى عشرات السنين.. أصبحت الآن حوالى سنتين فقط، مما يستوجب علينا أن نفكر إيجابيًا وندرك الفرصة الجديدة التى لم تكن متاحة أمامنا فى السابق، فلسنا بحاجة لمئات السنين ولا حتى عشرات لنلحق بركب التطور أو نكون من صانعيه.

إن الأطفال فى مصر يقفون على نفس المسرح الذى يقف عليه باقى أطفال العالم، فاليوم لدينا إمكانية أخذ طريق مختصر. لدينا الفرصة لننتقل مع غيرنا نقلة نوعية فى وقت قصير، إنه تحدٍّ وفرصة لو كنا عاقلين.

لقد أصبحت المعرفة متاحة للجميع بلا تكلفة، والذين يملكون الخيال أكثر من غيرهم هم الأطفال وصغار السن.

أولادنا يولدون لديهم فضول للمعرفة، وعقلهم ملىء بالخيال، ويستخدمون حواسهم وخيالهم لمعرفة ما حولهم وما لديهم من أدوات يفوق ما كان لدينا فى نفس عمرهم بمراحل، ونحن الذين نُحِدّ من استخدام الأطفال لقدراتهم ونحيطهم بالقيود فى سنوات حياتهم الأولى حتى يدخلوا المدرسة.. وهى النظام الذى صنعه الإنسان منذ قرنين ونصف من الزمان، فقط، لجعل كل الناس نمطًا واحدًا. نحن مَن اخترعنا الوسيلة التى تضع أفكار جيل سابق وكأنها مقدسات فى ذهن جيل قادم ليكونوا نسخًا مكررة.

إننا نضع الأطفال داخل إطار نصنعه أربع عشرة سنة، ويتوفر لهم رغمًا عنا وسائل الحصول على المعارف، والتى قد تتعارض مع ما نضعه فى عقولهم من أفكار، ونحن من يصنع وجدانهم.. فإذا تخرجوا بالرغم من تفوقهم العلمى والتقنى أحاديى الفكر لا يدركون جمال الخلق والإنسانية، ويفكرون بالعنف لجعل الآخرين صورة أخرى منهم ولا يقبلون التعددية التى خلقها الله ولا يحترمون حرية الغير فى الاختيار، فهذا مِن صُنعنا وليس هم.

مجتمعنا يا سادة هو نتاج إدارتنا لنظام التعليم والإعلام والفن والثقافة.

الفضول فضيلة، ودونه تتوقف حركة الحضارة الإنسانية.. ونظم التعليم، سواء فى مصر أو فى غير مصر، ستشترك، أرادت أم لم تُرد، فى مناهج الرياضيات والعلوم، فهى عابرة للحدود وليست من صنعنا، ولكن تدريس العلوم الإنسانية والمعايشة فى مؤسسات التعليم ما زالت تدور فى نمط جيل أسبق يحاول أن يستنسخ جيلا يشبهه ليعيش فى الماضى بدلًا من الحاضر الذى سيصنعه، أو المستقبل الذى سيبنيه هؤلاء الأطفال.

اقرأ أيضاً...

ولأن مصادر المعرفة أصبحت موجودة وبلا تكلفة، فشكل مدرسة وجامعة المستقبل اختلف وسيختلف، ولابد له أن يختلف. وظيفة المدرس الذى يشرح درسًا بالشكل التقليدى أصبحت غير كافية وغير واقعية، لأن التلميذ أصبح قادرًا على أن يقرأ عن موضوع الدرس قبل أن يأتى إلى الفصل، وعنده من الوسائل حسب مرحلته العمرية ما يجعله مستعدا للمناقشة بدلًا من مجرد تلقى العلم من طرف واحد. المدرس أصبح ميسّرًا، وهو الذى يضمن للطالب صحة مرجعياته، أو يقوم بتوجيهه لمراجع أخرى ويرشده كيف يختار الأفضل، ويغرس فى وجدانه منهجية البحث وإيجاد البرهان.

المؤسسة التعليمية لا يقتصر دورها على التعليم التقليدى، ولكن دورها الرئيسى يجب أن يكون صياغة الوجدان وبناء الشخصية السوية وزرع قيم أخلاقية وإنسانية تتوازن مع الذكاء الاصطناعى والرقمية التى لابد آتية آتية.

الحقيقة، إن المدرسة يجب أن تكون المكان الذى يذهب إليه التلميذ لكى يتوافق مع زملائه الآخرين، ويمارس مهارات القرن الواحد والعشرين، ويتعلم أن يعمل ضمن فريق، ويرسم ويغنى ويعزف الموسيقى ويمارس الرياضة ويخطئ ويصيب ويشارك ويقابل تحديات ويعبّر عن نفسه ويتنافس علميًا ورياضيًا، ويفوز بشرف بلا غرور، ويخسر بلا غضاضة، ويتعلم من أخطائه.

يتكلم أولياء الأمور والإعلام عن تغيير المناهج وكأنها أصل المشاكل، وهى ليست كذلك، بل هى أبسطها، فما نريد تغييره حقا هو أسلوب توصيل المعلومة إلى الطالب، على حسب قدرة استيعابه، وأن نوجد المدرس الميسر الذى يتابع هذا التحصيل، ويدمج التكنولوجيا فى وجدانه ليفكر ويُثبّت قيم النزاهة والصدق والدقة.. وغيرها من القيم الإنسانية والأخلاقية أثناء ذلك.

التحدى فى مصر ليس فى الأطفال والشباب، ولكن فينا، فى مدرسيهم ومدارسهم غير المجهزة لهم.. التحدى فى تغيير ثقافة أولياء أمورهم الذين دفعهم النظام لأن يقيسوا نجاح أولادهم بالشهادة وليس بالاستيعاب أو التعلم.

اقرأ أيضاً...

دور المدرسة هو صياغة الوجدان السوىّ من خلال النشاطات المصاحبة لوجود الطالب فى المدرسة، فالمدرسة التى ليست بها مكتبة ورقية ورقمية ونشاط رياضى وموسيقى وتختفى عنها الفنون هى مدرسة غير قادرة على تحقيق هدف بناء الإنسان السوىّ، فالمسألة ليست فى العلم والتعلم فقط، المسألة فى مجموعة القيم التى تجعل من الطفل إنسانًا. المدرسة قد تكون منصة انطلاق لعقول ونفوس أطفالنا، وقد تتحول إلى سجن نحصرهم بداخله فى إطار نمطىّ من صناعتنا.

لا أعتقد أن لدينا مشكلة فى تعليم أطفالنا، ولكن لدينا مشكلة فى إدارة هذا التعليم، فنحن الذين اخترنا ووضعنا ثلاثة وعشرين مليون تلميذ وتلميذة فى يد سبعمائة ألف معلم.. لا نؤهل أغلبهم لمهمتهم بالشكل الكافى، ولا نعطيهم الاحترام المستحق إذا ارتفعوا لمستوى ظنونا بهم. ذلك هو الواقع الذى أراه وأنت تراه والحكومة تراه.. أليس هذا مؤسفًا وعجيبًا؟!.

إذا كانت المعرفة متاحة، والمدارس موجودة، والشباب والأطفال ممتازون.. فما الذى يتبقى؟

يتبقى من يقودهم داخل هذا الإطار، أى مديرو المدارس والمعلمون، فَهُم الأساس، «ولا يرتفع مستوى التعليم فوق مستوى معلميه».

المجتمع المصرى بذكاء قرر أن يأخذ الأبناء خارج منظومة التعليم إلى منظومة الدروس الخصوصية لتحقيق هدف الدولة، وهو الحصول على شهادة.

الدروس الخصوصية هى عَرَض للمرض وليست هى أصل الداء.

أصل الداء هو طريقة إدارتنا لنظام التعليم الذى وجه المجتمع وساقه إلى ما هو فيه.

أنا لا ألوم أولياء الأمور، فهم يتكيفون مع الواقع.. ولا ألوم المعلمين، فلم يتم إعدادهم لدورهم المختلف بالقدر الكافى.

أمامنا فرصة فى حوار وطنى، عليه أن يعيد أولوية التعليم إلى مكانها ومكانتها.. ولدينا رؤية واستراتيجية عمِلَ عليها الخبراء ووضعوا لها معايير قياس نتائجها، وعلينا أن نطبقها ونلتزم بها، فرأس مالنا البشرى هو أهم ما نملك، وهو فرصتنا للإنقاذ.

Rochen Web Hosting