رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

بطرس غالى والسياسة الداخلية (2-2)

قسم : مقالات
الخميس, 01 ديسمبر 2022 13:01

يتوهم الكثيرون أن من يكون على صلة دائمة بالعالم الخارجى أو أن يكون طرفًا فى نشاط دبلوماسى لا يعنيه كثيرًا الاهتمام بالشؤون الداخلية، وهذا تصور مغلوط لا يعبر عن الحقيقة، فالسياسة الخارجية لدولة ما، هى امتدادٌ لسياستها الداخلية، فالرئيس الراحل السادات عندما تولى الحكم بعد وفاة الرئيس عبدالناصر حاول ترتيب البيت المصرى فى الداخل بما يمكن أن يتحول إلى أوراق اعتماد يتقدم بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عمومًا، بحيث تسمح ببداية فصل جديد من سياسة مصر الخارجية.. وهذا ما حدث بالفعل، فلقد سعى الرئيس السادات إلى الخروج من دائرة الحل الاشتراكى والتخطيط المركزى وسعى للوصول إلى اقتصاديات السوق.. وعلى الجانب السياسى، فإنه اتجه لإقامة المنابر التى كانت بداية نشأة الأحزاب المصرية منذ حلها بعد قيام ثورة عام 1952 بفترة وجيزة، ولقد كان د.بطرس بطرس غالى بحصافته وخبرته وفهمه للأوضاع المحلية والدولية قادرًا على استشراف المستقبل.. وبالفعل، عندما عين وزيرًا عام 1977 مسؤولًا عن العلاقة بين مصر والاشتراكية الدولية نتيجة تأثر الرئيس السادات بنصائح المستشار النمساوى حينذاك برونو كرايسكى، الذى كان متحمسًا للاشتراكية الدولية وقطبًا فاعلًا فيها، ما هى إلا أسابيع قليلة حتى بدأت الزيارة الشهيرة للرئيس الراحل إلى القدس، وكان بطرس غالى مرافقًا له فى ذلك الحدث الكبير، بعدما رفض نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسماعيل فهمى مرافقته اعتراضًا على تلك الخطوة غير المتوقعة..

وبعدها جرى تعيين بطرس غالى وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية، ورغم أنه كان معنيًا بالمسائل الدبلوماسية والقضايا الدولية إلا أن الخبرات المتراكمة لديه فى التعامل مع الحياة المصرية، بدءًا من إشرافه على أراضيه الزراعية التى جرى اقتطاع جزء كبير منها وفقًا لقانون الإصلاح الزراعى، فإن بطرس غالى كانت لديه خبرة الاحتكاك بالأوضاع فى المجتمع المصرى.. ورغم مظهره الأرستقراطى إلا أنه كان (ابن بلد) بالمعنى الحقيقى، يمتلك روحًا ساخرة، ولديه قدرة على فهم النكتة الشعبية واستيعاب الرأى العام فى كل وقت.. لذلك وصلت به الأقدار إلى قمة التنظيم السياسى الأوحد، وجرى ترشيحه لانتخابات مجلس الشعب عن دائرة الفجالة، وبذلك تم جرّ قدمه إلى الشأن الداخلى الذى لم يكن غريبًا عليه ولا بعيدًا عنه، فقد كان يستطيع التحدث مع رجل الشارع وبسطاء الناس بنفس القدر الذى يستطيع به أن يحاور دبلوماسيًا أجنبيًا رفيع المستوى أو أستاذًا جامعيًا مرموقًا فى إحدى الدول الغربية، خصوصًا فى القانون والعلاقات الدولية المعاصرة، وقد أتاح له ذلك أن يطل على الواقع من نافذتين: نافذة الرؤية الشاملة للمطبخ السياسى فى الداخل، والقدرة على توظيف ذلك فى خدمة السياسة الخارجية للدولة المصرية. وكان اهتمامه بالشأن الإفريقى أمرًا معروفًا، كما كان السودان موضع حفاوة دراسية لديه، حيث كان يعتبر العلاقات المصرية- السودانية طرفًا فى الاتهامات الموجهة لجده الراحل رئيس الوزراء الذى جرى اغتياله عام 1910، ومازلت أتذكر أن زميل دراستى الأستاذ مخلص قطب، الذى أصبح فيما بعد أمينًا عامًا للمجلس القومى لحقوق الإنسان، كان يرافق الدكتور بطرس غالى وهو وزير للدولة للشؤون الخارجية فى جولاته الانتخابية بشوارع الفجالة، وكان صديقى الأستاذ مخلص يندهش كثيرًا من (عبقرية المودة) التى يصنعها التواصل بين ذلك السياسى الوافد على الحياة الداخلية وبين جماهير الناخبين فى دائرته.. ويجب أن أعترف هنا بأن بطرس غالى هو سليل عائلة لها دور سياسى متواصل، من بطرس باشا الجد، إلى واصف باشا العم، حتى د.يوسف بطرس غالى الحفيد.

ولقد حكى لى الدكتور بطرس ذات يوم أنه بعدما عُين وزيرًا، اتصل به الدكتور يوسف ابن أخيه مداعبا بقوله: إنك تتولى الوزارة وأنت فى الخامسة والخمسين بينما توليتها وأنا فوق الأربعين بسنوات قليلة، فرد عليه الدكتور بطرس بطرس غالى: إن العِبرة ليست بمتى يبلغ الشخص منصبه الوزارى، ولكن العبرة الحقيقية بكم من السنوات سوف يظل على مقعده اعترافًا بكفاءته وتأكيدًا لنجاحه!.

إن بطرس غالى الموغل فى الواقعية السياسية والبراجماتية الفكرية هو رجل دولة يعتز به وطنه فى كل الأدوار الأكاديمية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية التى شغلها ذلك الرجل الذى صعد السلم من أوله حتى بلغ موقعه الدولى الذى لم يصل إليه مصرى آخر، والذى يحظى بأعداد هائلة من التلاميذ المباشرين وغير المباشرين طوال العقود الثمانية الأخيرة.. تحية لذلك المصرى العظيم فى عيده المئوى.

 

Rochen Web Hosting