رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

«الرَّبُّ رَاعِىَّ فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ»

قسم : مقالات
الأحد, 12 مارس 2023 22:04

أولًا: الرب راعىّ (مزمور 1:23):

 

 

هذا المزمور كتبه داود النبى وقال فيه: «الرَّبُّ رَاعِىَّ» وهذه العبارة تحدد شخصيتين، الرب والراعى. وهنا يظهر شىء من المفارقة، فهناك فرق كبير بين ربنا وإلهنا وبين الراعى.

 

 

«الرَّبُّ»: هذه الكلمة- سواء فى العبرية أو اليونانية أو اللاتينية أو الإنجليزية تثير فينا مشاعر مثلثة: عظمة الله، ثم قدرة الله، ثم ضعفنا نحن بالقياس إلى عظمته وقدرته. فنحن مخلوقات بسيطة بين يدى الله، ليس لها حياة بدونه تعالى.

 

 

«رَاعِىَّ»: لعلكم تلاحظون معى المفارقة الهائلة بين إلهنا العظيم جدًّا وبين الراعى البسيط المتواضع جدًّا، فالراعى لا يكون قويًّا ولا غنيًّا، بل هو فى خدمة صاحب العمل، كما فى خدمة الخراف التى يرعاها.

 

 

حقًّا أن الخراف تتبعه، ولكنها تفعل ذلك لأنه كرس حياته لأجلها. فهو الذى يقودها ويطعمها، ويبحث لها عن المأوى، ويحميها من الأخطار. حياته كلها هى من أجل الخراف، وهو نفسه أصبح مرتبطًا بها.

 

 

المزمور لا يقول: «الراعى هو الرب»، لا يضع أولًا صورة الراعى ثم يرفعها إلى مستوى الربوبية، فالراعى لم يصر ربًّا، ولو كان الأمر كذلك لصار هذا تصاعدًا قويًّا. بل نجد أن كلمة «الرب» تعنى أن الرب هو نقطة بدايتنا.

 

 

ليس هناك إذن تصاعد من حالة الراعى إلى حالة الرب، بل هناك تنازل من حالة الرب إلى حالة الراعى، وهذا أعمق إنكار للذات، وهذه الحركة تحمل معانى الاتضاع الإلهى، والعلاقة المتبادلة.

 

 

«اَلرَّبُّ رَاعِىَّ».. ليس الأمر أمنية فى المستقبل، أى أن «الرب سيصير راعيًا»، ولا هو صلاة أو رغبة، بل هو تقرير بسيط هادئ، عن حقيقة قائمة فعلًا: «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ». هذه هى حقيقة الأمور، وهذا هو الواقع فعلًا. قد أذهب بعيدًا عن الراعى، ولكنه سيبقى راعيًا، إنه الراعى الآن وإلى الأبد!

 

 

وليس الرب راعيًا من أى نوع، أو بمعنى عام ومجرد، فهو ليس راعينا وحسب، بل هو «راعىّ»، مما يوضح العلاقة المباشرة والشخصية بين الراعى والخراف، ليتنا نهتم ونتمعن فى معانى «ياء الملكية» فحين أقول: «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» فمعنى ذلك أننى أنتمى إليه. يقول لى الراعى: «أنت لى، أنا أملك كل الحق فيك، ليس لك سلطان على جسدك أو روحك، أنت ملكى» وأستطيع أن أجاوب الراعى قائلًا: نعم أنا لك، أنا ملكك، إن الحق الذى منحتنى إياه حين سمحت لى أن أدعوك راعىّ، يعنى أن راعينا المحب لا يتغير أبدًا أمام ثقة كهذه، ملؤها الشجاعة والاحتياج.

 

 

فتعبير «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» يشير إلى نوعية رعاية الراعى لى، فهو لا يعاملنى بنفس الطريقة التى يعامل بها بقية الخراف، هو يرى كل إنسان بطريقة خاصة، وهكذا تختلف معاملاته وعنايته من شاة إلى أخرى، لأنه يرعانى فى كل ما يختص بحياتى، بطريقة تناسبنى شخصيًّا وكأنه راعىّ لى أنا وحدى!.

 

 

ثانيًا: «فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ..» (مزمور 1:23)

 

 

لا أحد يستطيع أن يفصل هذه الكلمات الثلاث عن تلك التى سبقتها، لا يستطيع أن يفصل «فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ» عن «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» لأنها النتيجة التلقائية لكون «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» ذلك لأن عناية الراعى بقطيعه واهتمامه به يجعله يشبع حياته، وكل احتياجاته!.

 

 

إن تعبير «الرَّبُّ رَاعِىَّ» لم يكن صلاة أو رغبة بل حقيقة قائمة فعلًا، ونفس الأمر ينطبق هنا، فنحن لا نقول «لنا رجاء فى الراعى ألا يعوزنا شىء» ولا نقول: «أيها الراعى، لا تدعنى فى عوز» بل نقرر فى هدوء أنه لن يتركنا فى ضيقتنا.

 

 

وهنا نقرر حقيقة...«لاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ..» بينما ننظر حولنا ونسمع الأخبار والميديا، ونقرأ عبر النت والفيس ووسائل التواصل الإجتماعى فماذا نرى؟ صراعات دامية، وحروبًا طاحنة، وزلازل مدمرة، وغلاء وجوعًا، ومرضًا! لكنه لا يترك أولاده أبدًا.

 

 

إن البعض يصلون بإيمان، ولكنهم يطلبون أمورًا لا تتفق مع مشيئة الله لحياتهم؛ لذلك لا يستجيب الرب لهذه الطلبات الضارة.

 

 

قد أكون جائعًا أو محتاجًا، مصابًا أو مريضًا، وأتصور أننى فى هذه الحالة أملك الحق فى أن أقول: «أنا الآن محتاج.. وأنسى أنه يدبر لى كل شىء فى وقته!».

 

 

الراعى لا يتجاهل ضيقتى، حتى ولو بقى صامتًا، لكن إجابته قد لا تتوافق مع الخط العام لحياتى كلها، إنه لا يعطينى الإجابة اليوم، لكنه ربما يجيبنى غدًا أو بعد غد أو بعد فترة طويلة. ولكى أتحقق الإجابة يجب أن آخذ فى الاعتبار حياتى كلها وليس لحظة بعينها. لو أدركت ذلك لتحققت أن كل ما مضى من حياتى نعمة، وأن كل حاضرى نعمة، حتى ولو كانت حياتى فيها قدر من الآلام!. ربما تبدو هذه النعم مختلفة عما كنت أتصور، أو أطلب، ولكن الراعى لم ينسنى إطلاقًا، ولم يتركنى فى عوز.. فهو «يعطى بسخاء».

 

 

* الأسقف العام للشباب

 

 

بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية

Rochen Web Hosting