رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

صوت الثورة والحب

قسم : مقالات
السبت, 01 أبريل 2023 19:32

فى مدينة طنطا، حيث وُلدت ونشأت، كنت أمر بشكل شبه يومى من شارع «عبدالحليم» الذى تقع فيه المدرسة التى كان يعمل بها «حليم» فى بداية حياته.. توفى «العندليب» فى 30 مارس 1977، وتردد أن بعض الفتيات من مصر انتحرن بعد معرفتهن بهذا الخبر.. فهل هذا ما دفعنى فى مرحلة المراهقة للتماثل مع «منى» بطلة فيلم «زوجة رجل مهم».. حين كنت أوثق حياتى مثل ملايين المراهقات بأغنيات «حليم».. وترتبط حالتى المزاجية بكل فيلم يُعرض له أو أغنية تذاع فى الراديو أو التليفزيون؟.. ربما.

كنا نتبارى ونحن صغار فى تأدية أدوار بطلات فيلمه «شارع الحب»، نعشق تفاصيل شارع «محمد على»، وعلاقته الوثيقة بفرقة «حسب الله السابع عشر»، وكنا طرفاً فى رهان «كريمة وميرفت» على إجبار المدرس «عبدالمنعم» على قص لحيته وشاربه (بعد أن اضطر إلى وضع لحية وشارب صناعيين حتى يبدو كرجل كبير ليعمل بالنادى الراقى).

حين جُرحت كرامته انجرحنا، وحين عاد لحبيبته انتصرنا.. ربما رأيت هذا الفيلم آلاف المرات.. ورغم ازدحام الفضائيات ما زلت كلما رأيت «حليم» أتوقف: ربما هو الحنين لحب افتقدناه فى زمن الزيف.. أو التمسك بفن راقٍ.. أو أننى «أذاكر الدرس» وأحفظه جيداً من معلمى الأول.«يا معلمنى الحب يا ريتنى ما اتعلمته معاك ولا شفته».. كان حليم هو «أيقونة الحب» فى وجدان المصريين، تعلمنا منه كل أشكال الحب، وكنا طرفاً فى هزائمه وانتصاراته العاطفية، تلقينا نيابة عنه صفعة عماد حمدى له فى «فيلم الخطايا».. وتهنا وتألمنا فى «أبى فوق الشجرة»: (حتى فى أحضان الحبايب شوك يا قلبى.. ابكى).. وبكينا كثيراً، فرحاً وحزناً، مع نجمنا الأسمر النحيل وعليه، فقد كان يهبنا السعادة بينما هو يموت قطعة فقطعة.. تحالفت عليه البلهارسيا مع فيروس C فى عز مجده.. وبينما كانت وسائل الإعلام (التى لا تتجاوز عدة صحف وتليفزيون محلى آنذاك) تنشر قصص الغرام والزواج المزعومة.. كان «حليم» يبحث عن العلاج فى لندن.

أذكر أننى فى بداية حياتى الصحفية ذهبت لأحاور الحاجة «علية شبانة»، شقيقته التى ربته، والحقيقة أننى ذهبت أبحث عن «الحلم الضائع»، أشتم رائحته فى غرفة نومه، حيث لا يزال عرقه يرسم حجم رأسه على ظهر سريره.. حدثتنى الحاجة «علية» طويلاً عن المعجبات اللاتى يذهبن - مثلى- إليها، ورأيت أسماء بعضهن مكتوبة على باب شقته بالزمالك.. وتخيلت لو عاش «حليم» حتى عصرنا هذا وشهد «ثورة الاتصالات».. كيف كان سيتعامل مع وسائل «التواصل الاجتماعى» وملايين المعجبين والمعجبات فى العالم العربى؟!كان «حليم» أسطورة فى كل شىء، الموهبة وفن إدارتها وعلاقته بالإعلام المحدود آنذاك.. فى اختياراته الفنية.. فحين غنى «على حسب وداد» و«أنا كل ما أقول التوبة» هزم بالضربة الفنية صعود نجم الفنان الشعبى «محمد رشدى».

«حليم» هو ذاكرة الشعب الوطنية، هو من علمنا «حب الوطن» بحمل البندقية، وحتى الآن لا نزال نتغنى بأغنياته وكأنه أوصانا بأن نحمل قلبه بين ضلوعنا وألا نقبل الهزيمة أبداً.. وفى لحظات التفكك العربى نستدعى «أحلف بسماها»، التى غناها سنة 1967، ووعد أن أن يغنيها فى كل حفلاته إلى أن تتحرر أرض مصر فى سيناء.. كان «حليم» هو الحنجرة المعبّرة عن ظاهرة زعامة «عبدالناصر».. وكان صوته الساحر كفيلاً بأن يجمع الناس فى «صورة» واحدة ونغمة متجانسة: «عايزين اللى يصون مبادئنا وينور بالحب طريقنا ويغنى معانا للحليوة بلدى».

وعاش «حليم» حتى تحررت سيناء، ليغنى «عاش اللى قال» وهى أول أغنية غناها عبدالحليم بعد نصر أكتوبر 1973.. ورغم كل أغنياته الدينية مثل «خلينى كلمة» ظلت أغنيته «المسيح» ممنوعة من الإذاعة حتى وقت قريب.. فالحب فى أحباله الصوتية لم يكن امرأة يتغزل فى جمالها.. كان «حالة متكاملة» عشناها معه حتى بعد رحيله، واستمعت الأجيال الجديدة إلى أغنياته الوطنية فى الثورة وبأصوات مطربين آخرين.. وهذا هو «الخلود».

كان «عبدالحليم» أسطورة فى الفن والمعاناة، فى النجاح والألم، فى الصعود والبقاء على القمة.. كان ملكاً متوجاً على القلوب التى أحياها الحب ومنحها البهجة والتمرد وإرادة التشبث بالحلم.. والأسطورة لا تموت، إنها تحيا فى الوجدان والقنوات الفضائية والتسجيلات الصوتية والمرئية، وأفلام «حليم» وأغنياته منحته عمراً يتجاوز بقاءه على الأرض، إنه لا يزال بيننا حياً بصوته.. بسحره.. بعبقريته التى لم تتكرر.. لا يزال هو الاختبار الصعب لكل صوت يريد أن يعبر إلى بوابة الغناء.. وهو الملاذ لكل عاشق يناديه من العالم الآخر ربما: «بأمر الحب افتح قلبك واتكلم».

Rochen Web Hosting