رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

العناد يورِّث الكفر (7)

قسم : مقالات
السبت, 16 نوفمبر 2019 12:13

دأب الناس، عناداً وجهلاً ومكابرة، على إنكار الرسالات والنبوات، وإيذاء بل وقتل الأنبياء بغير حق، فكانت حجج الصدق هى برهان الأنبياء إلى من بعثوا إليهم لتوقظ عقولهم وضمائرهم من السبات، وتقرع الأفهام لترى أن ما أتى ويأتى به الأنبياء من المحال أن يكون من صنع البشر.. وقد كتبنا فى كتابنا: الأديان والزمن والناس. كتاب الهلال، سبتمبر 2006، أن المعجزات والخوارق هى خروج عن قوانين السببية، وهى قوانين تحد البشر بإرادة الله عز شأنه الذى أقام ناموس الكون على سنة الأسباب، والسبب والمسبب هذا الناموس السارى على الكون والناس، لا يسرى على الخالق المبدع عز شأنه، لأن إليه سبحانه مناط ومآل كل شىء، هو سبحانه السبب الأول، واجب الوجود لذاته.. «سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (مريم 35).. «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (النحل 40).

قلنا بكتاب الأديان والزمن والناس، إن «معجزة» أو «حجة صدق» نوح، عليه السلام، كانت السفينة التى بكَّر بصنعها بأمر ربه، فنجته ومن معه من الطوفان الذى لم ينج منه أحد من الكافرين! (هود 36 - 44)، أما عاد، قوم هود، الذين كذبوه وسخروا منه، فقد كانت آية الله إليهم الريح الصرصر العاتية التى دمرت كل شىء بأمر ربها (الأحقاف 24 - 25).. سخرها الله تعالى عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً حتى صار القوم صرعى كأعجاز نخل خاوية!! (الحاقة 5 - 8).. أما صالح ومماراة ثمود التى سألته أن يخرج لهم من الصخر ناقة، فإن الله سبحانه قد أيده بناقة انشق عنها الصخر لتكون لهم آية أمرهم الله ألاَّ يمسوها، إلاَّ أنهم خالفوا وعقروها، فأخذتهم «الصيحة» فأصبحوا فى ديارهم جاثمين!! (هود 61 - 68).. وقوم لوط الذين كانوا «أسرى» اعتياد عمل السيئات، فقد دمر سبحانه وتعالى قريتهم وجعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود!! (هود 77 - 83).. ومدين، قوم شعيب، الذين حذرهم من نقصهم الكيل والميزان أن يصيبهم مثل ما أصاب أقوام نوح وهود وصالح ولوط فلما أبوا واعتدوا وسفّهوا نبيهم وكذبوه وهددوه أخذتهم «الصيحة» مثلما أخذت ثمود!! (هود 94).. وعلى هذه السنة توالت المعجزات الإلهية تأييداً وحجة صدق للأنبياء والرسل، وقوارع كفيلة بإيقاظ الغرقى فى «شرنقة» الاعتياد والتجمد على عبادات الغابرين وإلف الكفر والشرك!! فإبراهيم الخليل، عليه السلام، أيده الله بالنار التى أراد قومه تحريقه بها، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه!! (الأنبياء 51 - 70).. وأيده الله سبحانه بمعجزة الطير الأربعة التى وزعها على قمم الجبال ثم دعاهن فأتينه سعياً بأمر ربه! (البقرة 260).. وموسى الذى كلمه الله تكليماً وآتاه تسع آيات بينات فما ظنوه إلاَّ مسحوراً!! وآتاه آية العصا التى لقفت ما يأفكه السحرة فبطلت أعمالهم! (الشعراء 45 - 46، الأعراف 115 - 120) وآتاه آية يده التى وضعها فخرجت من جيبه بيضاء بغير سوء! (النمل 127، الأعراف 108) ثم لم تمنع هذه الخوارق، ولا آية البحر الذى فرقه الله وأغرق المطاردين فى اليم.. لم تمنع بنى إسرائيل من أن يتنكروا لموسى ويتخذوا العجل من بعده!!..

 

بيد أن المفارقة الكبرى كانت فى المعجزات غير المسبوقة التى أيد بها السيد المسيح، عليه السلام، وبين ما لاقاه برغمها من مأساة غير مسبوقة بدورها.. فمن قبل عيسى تأيد الأنبياء والرسل بكثير من الآيات والمعجزات، ثم كانت آية نبوة يحيى ولادته لأبوين شيخين طاعنين، أما السيد المسيح فقد تأيد بمعجزات وخوارق لم يرها الناس من قبل، لم تنحصر فقط فى حمل مريم فيه بغير أب، وإنما شهد الناس من معجزاته ما لم تسبق به رؤية أو سماع، ما بين الكلام فى المهد صبياً، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، ومع ذلك كله، ورغمه، لم تفلح هذه الخوارق والمعجزات والبراهين والآيات، فى زحزحة اليهود وإخراجهم من «شرنقة» الاعتياد، وإنما قادهم ما انحرفوا به عن الناموس وشريعة الله، وما ألفوه وتجمدوا عليه فى هذا الانحراف قادهم إلى أشنع مأساة عرفها تاريخ الإنسانية!!

 

لم تنزل دعوة المسيح، عليه السلام، لتناصب بنى إسرائيل العداء، ولا لتزاحمهم على أمجاد الدنيا، وإنما تنزلت بالهداية والمحبة، وقد أهملت شريعة موسى، عليه السلام، وطغت الماديات حتى تحول الهيكل المقدس إلى مشروع ومزار تجارى، وتفرقت باليهود الطوائف إلى صدوقيين وفريسيين وآسينيين وغلاة وسامريين.. جاءت المسيحية لتعيد السواء إلى الخروج عن الناموس وشريعة التوحيد التى جاء بها موسى، عليه السلام، حتى كان المسيح، عليه السلام، يقول: «لم أرسل إلاَّ إلى الخراف الضالة إلى بيت إسرائيل» (متى 15: 24).. جاء المسيح ببساطة الضمير يدعو إلى ملكوت السماء فى الضمير والوجدان، لا فى القصور والعروش.. ولكن شنف له أصحاب القصور والثروات، وكهنة الطوائف والغلاة. حمل إلى بنى إسرائيل شريعة الحب فواجهوه بالجحود والتجبر والرياء.. وشرنقة العادة أو الاعتياد.

قاوم بنو إسرائيل دعوة المسيح، عليه السلام، مقاومة عاتية ضروساً، تتمسك بالقديم وتقاتل من أجله، وترفض الهداية ولا تتردد فى شن الحرب عليها.. واجه السيد المسيح ما واجهته الرسالات والنبوات من قبله من صد ورفض ومقاومة وإيذاء خرج عن كل الحدود، وجمع بنى إسرائيل على ذلك ما جمع السالفين من عناد وإنكار وصد ومكابرة، ومن لجاجة جهولة يغذيها العند الذى يورِّث الكفر.. لم يردهم عن عنادهم ما جاء به عيسى، عليه السلام، من معجزات وخوارق لم يرها الناس من قبل. حملت فيه مريم بغير أب، وكلّم الناس فى المهد صبياً، وجعل الماء بأمر ربه خمراً فى عرس «قانا الجليل» وصوّر الطين على هيئة الطير ونفخ فيه فصارت طيراً بإذن الله، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى بإذن ربه، وأخبر بنى إسرائيل بما يأكلون وبما يدّخرون فى بيوتهم، فلم تزدهم هذه الخوارق والمعجزات الاَّ عناداً ومكابرة، وجمحوا إلى تأويل دعوته بأنها مزاحمة للرب، ويخبر القرآن المجيد كيف درجوا مع عيسى، عليه السلام، على ما اعتادوه من العناد والإعنات وقتلهم الأنبياء بغير حق..

 

فى ليلة حالكة السواد، اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون بعد أن كثرت آيات السيد المسيح، عليه السلام، والتفت حوله الجموع، فجعلوا يتآمرون ويتشاورون فيما يفعلون به، فقال لهم «قيافا»، رئيس الكهنة: «إنه خير لنا أن يموت واحد ولا تهلك أمة كلها».. ومن ليلتها قر قرارهم أن يقتلوه، وجعلوا يتحينون الفرصة، حتى تقدم إليهم الخائن يهوذا الإسخريوطى، أحد تلاميذ المسيح، وأخذ يساومهم على تسليمه إليهم، فجعلوا له ثلاثين من الفضة لقاء ذلك!

وقد ذكر القرآن المجيد أن عيسى، عليه السلام، أحس منهم الكفر والغدر، وتقول الروايات إنه عليه السلام علم بأن الساعة قد حانت، وقال لتلاميذه: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم. وابن الإنسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم، فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه وفى اليوم الثالث يقوم».

وجاء بإنجيل لوقا: «وبينما كان الجميع يتعجبون من كل ما عمله يسوع، قال لتلاميذه: «لتدخل هذه الكلمات آذانكم: إن ابن الإنسان على وشك أن يسلَّم إلى أيدى الناس!» إلاَّ أنهم لم يفهموا هذا القول، وقد أغلق عليهم فلم يدركوه، وخافوا أن يسألوه عنه» (لوقا 9: 44، 45)، وجاء برواية إنجيل متى: «وفيما كانوا يتنقلون فى الجليل، قال يسوع لتلاميذه: «ابن الإنسان على وشك أن يسلَّم إلى أيدى الناس، فيقتلونه، وفى اليوم الثالث يقوم. فحزنوا حزناً شديداً» (متى 17: 22، 23).

Rochen Web Hosting