رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

العناد يورِّث الكفر (16)

قسم : مقالات
السبت, 18 يناير 2020 16:24

لا بأس من أن نختتم هذه الفصول، بما ذكرناه فى كتابنا: «الأديان والأمن والناس» كتاب الهلال 669 فى سبتمبر 2006 من أن الأديان لا تنتهى غايتها بمحاربة شرنقة اعتياد الكفر، وإنما غايتها المثلى احتواء وهدم كل «عادة» ذميمة تتشرنق فيها المذمات والمصالح والمآرب العارضة وتأخذ البشرية بعيداً عن طريق الحق والجمال..

هذه الغاية المثلى لا تنهض بها قارعة حسية تبهر العقول والألباب دون أن تحمل بذاتها مدد النور والهداية فيما يصادف الإنسان كل يوم من سلبيات تتمحور وتصد كل دعوة أو محاولة للتغيير والإصلاح.

إن لكل زمن عادات وشرنقات تتحوصل فيها هذه العادات والمصالح، والتعامل مع هذه «الشرانق» المتغيرة يستلزم قدرة آلية ذاتية تحمل مقومات التعامل مع كل منها حسبما تقتضيه عناصرها.. ومن هنا كانت القيمة العظيمة لهداية العقل والضمير التى أتى بها وأنجزها الإسلام، لأنها تعطى للآدمى أكسير التعامل الدائم المتجدد مع آفة كل عادة ومآرب المصالح التى تتشكل وتتمحور وتتشرنق فى دنيا الناس!!

لم تكن السماء بعيدة عن هذا كله، ولا كانت غير ملتفتة إليه، وإنما هى مراحل كان لا بد من تتابعها تتابعاً تدريجياً لتأهيل البشرية لاستقبال الهداية الفارقة التى تأخذ بيدها أبداً إلى النور الدائم الذى لا يخبو ولا ينقطع هذا النور الذى يحمل شعلته الذاتية، وقوامها هداية العقل والضمير، وقوته الدافقة الدافعة التى تكفل للإنسانية ديمومة الإمساك بالخيط الذى يشدها دوماً إلى الحق والنور.. كيف حقق الإسلام الدين الفارق الخاتم هذا الإنجاز؟

المسئولية التى نيطت بالإسلام، لم تكن كشأن الديانات السابقة، لأمر بالغ الأهمية عريض الخطر.. كانت الأديان من قبل ديانات لأقوام، محدودة الدائرة التى فيها يجرى الخطاب فى زمان بعينه، إلى قوم بعينهم، فى بقعة يعيشون فيها، محدودة بهم ومحدودون فيها بلا وسائل اتصال أو انتشار مما أتيح للبشرية من بعد، فكان مفهوماً ومقبولاً مع هذه المحدودية أن تحتل المعجزة المادية أو الحسية مكان الصدارة لأنها بالغة الغاية فى دائرتها ما دام لا يطلب إليها أن تتخطاها إلى خارج الزمان والمكان اللذين فيهما يعيش المخاطبون، بينما جاء الإسلام ليخاطب الدنيا بأسرها، الرب فيه رب العالمين لا رب قوم بذاتهم، والخطاب فيه يتجاوز حدود المكان وحدود الزمان ليقدم للإنسانية الدين التام الكامل الخاتم الذى تغيت السماء أن يكون ديناً للعالمين إلى أن يرث سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها. هذا الدين لا يؤدى غايته المرجوّة إن لم يحمل بذرة وصلاحية وقدرة الامتداد فى المكان والزمان، وغير متصور لهذه الغاية العريضة أن يكون خطابها محدوداً، ولا أن تكون أدواتها محدودة، لأن هذه وتلك تقعدان بالديانة عن بلوغ هذه الغاية المأمولة لذلك كان لا بد للإسلام أن يكون ديناً فارقاً يحمل شعلته الذاتية، وقوامها هداية العقل والضمير، ليكون له بهذه الهداية القوة الدافقة الدافعة التى تكفل للإنسانية ديمومة الإمساك بالخيط الذى يشدها دوماً إلى الحق والنور والجمال.

ليس يعنى هذا أن الإسلام أو رسول الإسلام قد افتقدا «حجة الصدق»، أو أن سيرة النبوة المحمدية قد خلت من الآيات والمعجزات، وإنما الآية البينة على كمال الإسلام غايةً ومنهاجاً، أنه قدم للإنسانية مفتاحاً تواجه به المعضلات وآفات الجمود والاعتياد على مدار الزمن، فلا ينحصر فى إزالة شرانق اعتياد الكفر، وإنما يتجاوزها إلى هداية موصولة تحاصر كل ضلالة ناشبة أو محتملة النشوب، وهو لذلك قدم منهاجاً متكاملاً وعقيدة شاملة تصح بهما الحياة والأحياء فى عالم مشدود إلى نور دائم لا يخبو ولا ينقطع، شعلته الذاتية هداية العقل والضمير والوجدان. لذلك كانت النبوة المحمدية، نبوة هداية ترمى إلى تفتيح العقل وتبصيره ودعوته واستثارته إلى التأمل والتفكير والفهم والتدبر.. ولذلك أيضاً كان القرآن المجيد هو آية الإسلام الكبرى، وحجته الموصولة المحددة، وزاده المعطاء الذى لا ينفد لإنارة سبيل البشرية إلى الحق والنور والجمال..

القرآن المجيد كتاب «عقل»، يجعل من التفكير فريضة بدعوة صريحة فى الآيات وخواتمها التى تستدعى ملكة الفهم والنظر والتأمل والتفكير، على نحو: «أفلا تعقلون».. «لعلكم تتفكرون».. «قل انظروا ماذا فى السماوات والأرض».. «لعلهم يفقهون».. «أفلم ينظروا».. «أو لم يتفكروا».. «لآية لقوم يتفكرون».. «أفلا ينظرون».. «أفلا تبصرون».. «ليدبروا آياته».. «أفلا يتدبرون».. هذه وغيرها من القوارع المنبهة المتكررة لا تأتى فى القرآن المجيد عرضاً، وإنما فى إطار منهاج عميق يتبناه القرآن ويدعو إليه حتى فى مسائل الإيمان والعقيدة.. «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِى الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (آل عمران 190، 191).. هذا التأمل المتعبد الفاهم الواعى هو قوة دفع ذاتية بآلية دافقة لا تنقطع، تستخلص المتأمل من وهدة شرانق الكفر أو الضلالة أو الجمود، وتكفل له ديمومة المدد والأثر الفاعل واستمرار الإمساك بأحبال الهداية والنور.. لا ينقطع هذا المدد بتجاوز كفر أو شرك ناشب فى النفوس، ولا باقتلاع عادة ذميمة، ولا بالقضاء على آفة مستحكمة وإنما هو طاقة ديناميكية واعية، تعطى القدرة على مواجهة واحتواء أو تجاوز أو إزاحة كل «سالبة» أو «مذمّة» أو «عادة» أو «نقيصة» تفرخها مسالك ودروب ومآرب الناس فى الحاضر أو فى الزمن القابل..

لم تنقطع قط مآرب وأغراض الناس عن إفراز «المذمّات» و«النقائص» والتحوصل فى شرانق الاعتياد أو الجمود، أو بمنطق «ليس فى الإمكان أبدع مما كان».. ولذلك لم تنقطع حاجة دعوات الهداية أو الإصلاح أو التغيير أو التطوير أو الترقى إلى مدد موصول يعطى «المفتاح» لتجاوز ما يطرأ أو عساه يطرأ، وهذا المفتاح لا يكون إلاّ بقدرة فاعلة ومهيأة بالنظر والفهم إلى سبر أغوار المستجدات، واستكشاف جذور الآفات والنقائص والسلبيات، واستشراف سبل محاصرة شرانق الاعتياد والجمود، وإزاحة أو إزالة أسبابها، وإفراز معطيات جديدة صالحة تدفع تيار الحياة والأحياء إلى الحق والجمال والكمال.. هذه الغاية المثلى لا تتحقق بقارعة أو خارقة غابرة شدت وبهرت فى أوانها ثم انطمرت وانطمر وزال أثرها.. يلمس القرآن المجيد هذه الحقيقة لمساً عميقاً حين يورد: «وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ» (الإسراء 59).. هذا التكذيب الضرير واجه كل الدعوات استمساكاً من المنكرين والمكذبين بضلال الآباء والأجداد الغابرين.. «إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ» (الصافات 69 - 73)..

مفتاح الإسلام إلى القدرة الموصولة على ديمومة مواجهة شرانق «العادات» و«المذمّات»، وطلب الكمال والسعى إليه، مجدول فى المنهاج العقلى الذى اعتمده القرآن المجيد وتبنته النبوة المحمدية الهادية التى لا تسعى إلى إسكات ولا إلى سيطرة ولا تجبر ولا إلى قمع للفكر والفهم، وإنما إلى التبصرة والتنوير والهداية.. الدعوة قوامها الحكمة والموعظة الحسنة والمحاورة القائمة على العقل والمنطق واستشفاف الصواب: «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ».. (النحل 125).

Rochen Web Hosting