رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

25 ينـاير

قسم : مقالات
الأحد, 26 يناير 2020 15:59

مع ساعات الصباح الأولى من يوم الجمعة 25 يناير 1952 كان الصقيع يلف القاهرة من كافة نواحيها. استيقظ المصريون والمصريات وانطلق كل فى وجهته، أو مكث فى بيته متدثراً بما ثقل وزنه من الملابس حتى يصد غزو موجات الصقيع عن الأجساد المتعبة. الوضع فى الإسماعيلية التى تتزاحم بالفدائيين وأعدائهم من الإنجليز كان على عكس القاهرة شديد السخونة. فقد وصل إنذار من الكومندان الإنجليزى لمحافظ الإسماعيلية بسحب قوات الشرطة من مبنى المحافظة وتسليم أسلحتها. اتصل المسئولون بوزير الداخلية حينها، الباشا فؤاد سراج الدين، فأعطى أوامره بعدم الاستسلام، فكان ما تعلمه من مواجهة باسلة خاضها جنود وضباط الشرطة بالأسلحة الخفيفة ضد آلاف الجنود والضباط الإنجليز المدججين بأثقل العتاد، وأسفرت معركة الصمود عن استشهاد 50 وإصابة 80.

طارت أخبار المذبحة إلى القاهرة وغيرها من المحافظات المصرية، وطار معها عقل المصريين واستشاطوا غضباً، داخلهم إحساس يتمازج فيه الفخر ببسالة المحاربين بشعور بالانكسار والجرح العميق جرّاء الدماء التى أُهدرت بإحساس باليأس من كل الأحزاب والقوى السياسية التى تتصارع على الحكم ولا تأبه بالدم المسفوح. لم يكن غضبهم على الإنجليز جديداً، فمنذ أن غزوا أرضهم وديارهم عام 1882، وهم يعلمون أن الغريب لن يكون رحيماً بهم بحال، إنه فقط يريد أن يمتص خيراتهم ولا يأبه بمن يعيش أو يموت. أسهل أمر عنده إطلاق الرصاص على الأبرياء، أما الملك فعاجز مثلما عجز أجداده عن إخراج المحتل، وينظر إليه كجزء من واقع المشهد السياسى الذى تفتحت عيناه عليه، وبالنسبة للأحزاب والقوى السياسية فكل ما يهمها الفوز بتشكيل الحكومات، بما فى ذلك الوفد الذى جرح شعور المصريين بعمق عندما ارتضى أن يأتى إلى الحكومة من فوق ظهر دبابة إنجليزية فى حادثة فبراير الشهيرة عام 1942.

ينقل نجيب محفوظ على لسان أحد أبطال رواية «السمان والخريف» قوله إن «يوم 25 يناير 1952 سيكون تاريخاً يفرق ما قبله عما بعده». أظن أن نجيب محفوظ كان ينقل ما يدور فى الشارع المصرى حينذاك. والحس الشعبى لا يخطئ. وقد كان ذلك إحساس الناس الذين نظروا إلى ما حدث كلحظة فارقة لها ما قبلها، ولها ما بعدها. الغضب يخلق التحول، والتحول الذى حدث للبعض ساعتها تمثل فى اليأس من انصلاح الحال، وتولّد لدى الكثيرين يقين بأن الجالسين على سدة الحكم حينذاك قد انتهت صلاحيتهم، وأن استمرارهم يفقد الأشياء معناها، بما فى ذلك الدم الذى أُهدر ظلماً وعدواناً فى الإسماعيلية.

لحظات اليأس فى حياة الشعوب لها جلالها. لا تستغرب من الوصف. فوصول الشعوب إلى حالة يأس من صلاح الأحوال تعقبه قناعة بضرورة تغيير الواقع، والقناعة بتغيير الواقع لا بد أن يتلوها تحرك. كل ما تحتاجه الأمور فى مثل هذه الأحوال شرارة والباقى على الشعب. والعجيب أن الأمر لم يطل كثيراً، فلم تمض سوى ساعات على يوم الجمعة الدامى بالإسماعيلية حتى كانت الشرارة تنطلق، لكن هذه المرة فى شوارع القاهرة التى حوّل الغضب شتاءها إلى نار تأججت بالغضب.

Rochen Web Hosting