رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

من فيض الخاطر!

قسم : مقالات
الجمعة, 10 يوليو 2020 11:29

تجرى الأقلام والكلمات، والحكم والمواعظ، من مئات السنين، على المقابلة بين الدنيا والآخرة، ووصف الدنيا بأنها الغرورة الفانية، والآخرة بأنها الحقيقة الباقية.. ونظراً لأن أحبال صبر المتعجلين لا تستطيع انتظار الآخرة، فتتعجل الدنيا وتقع فى حبائلها، تطور الخطاب ليضع الآجلة مقابل العاجلة، على اعتبار أن الآجلة أقرب من الآخرة، ويمكن أن ترد فى الدنيا، فتعوض الصابر الصبور، المتمسك بالحبل المتين عن مكاسب العاجلة التى يمكن أن تكون سراباً قصاراه أن يذهب بالمندفع إليها إلى فوات الاثنتين: العاجلة والآجلة، أو إلى زوايا النسيان، أو إلى مزبلة التاريخ!

فى هذا الزمان، زماننا، لم يعد أحد يصبر على طلب العاجلة إيثاراً للآجلة وإن كانت أكرم وأفضل وأعظم وأبقى.. يتساقط الرجال وأشباه الرجال كأوراق الخريف طمعاً وجرياً وراء منصب أو موقع أو ترشيح أو مغنم أو سبوبة، مع أن ذات هذا الزمان الذى نعيش فيه يرينا كل يوم مآل من تسابقوا وأسرفوا على أنفسهم وكرامتهم وعلى وطنهم وعلى الناس، وماذا صار بهم الحال حين غربت النجومية المصنوعة أو المصطنعة، وانحسرت الأضواء، وأحاط بهم السكون المطبق بلا مدد يعوضهم بذكريات تبل الخاطر، إلاَّ سكاكين الندم والخذلان.. تقطع فى أحشائهم، وتبرهن لهم، بعد أن فات الأوان، أن الآجلة، لو فهموا وتفطّنوا، كانت خيراً لهم وللوطن.. وأبقى!!

لو تأمل المتعجلون المتدافعون إلى العاجلات، لعرفوا أن الكون كله فى صيرورة دائمة.. الأرض والشمس والقمر والكواكب والأفلاك والمجرات، جميعاً تدور فى حركة دائبة لا تتوقف.. وهكذا وقائع وظروف الحياة.. لا يبقى ملك فى ملكه، ولا حاكم فى سلطانه، ولا ناعم فى موقعه.. ولعرفوا أن التاريخ، وإن بدا فى الحاضر أنه لا يكتب، إلاّ أنه يخط خطوطه يوماً بيوم ولحظة بلحظة، وأن ما استتر أمره أو تحصن بيومه، مآله إلى الانكشاف وفقدان الحصانة باكراً.. حين تظهر المخطوطات إلى حيز الوجود بعد تغير الظروف أو زوال الحصانات!

لو تأمل المتعجلون فى الأمور المستورة التى تتكشف كل يوم، لأدركوا أن المفضوح الجارى المساءلة عليه الآن كان بالأمس فى طىّ الكتمان محجوباً عن عيون الناس.. ظن حاجبوه أنه فى حرز حصين لن يصل إليه مخلوق، فإذا هو اليوم متداول «على عينك يا تاجر» كما يقولون!!

ماذا يساوى ما يؤخذ من كرامة الإنسان وشرفه، وماذا يساوى أصحاب العجلة حين تنحسر عنهم الهالات فيبدون للناس، وأمام أنفسهم، بلا شرف ولا كرامة؟!.. وماذا سوف يجنى من تعجّلوا الكسب الحرام، أو فرّطوا فى واجب الشرف والصدق والنزاهة، أو باعوا ضمائرهم، أو تاجروا بولائهم، أو طعنوا أوطانهم وناسهم، أو تسابقوا فى مواكب الزيف والضلال والبهتان، وأعطوا ظهورهم للحق ولبلدهم وناسهم، واشتروا العاجلة بالآجلة، فلا العاجلة بقيت ودامت لهم، ولا الآجلة أفسحـت لهم أو التفتت إليهم!

إيثار العاجلة على الآجلة، نازع يحدث فى الحياة الخاصة كما يحدث فى الحياة العامة.. الفارق أن آثاره فى الحياة العامة أكثر اتساعاً وأعم ضرراً.. ولكنه فى الحالين استسلام لنازع تتراجع أو تنطمر أمامه الرؤية والفطنة والبصيرة، وتضعف أو تتلاشى إرادة الحق والصواب، وتحل محلها إرادة النفع وانتهاز الفرص، والتخلى عن الاتزان والوقار والالتحاف بالمداهنة والرياء والوصولية والنفاق، والاستسلام للرغاب والشهوات، وضمور داخل الآدمى بإسكات ثم موات ضميره، فتتساوى المرئيات، فلا تميز العدسة بين الكمال والنقص، ولا بين الجمال والقبح، ولا بين الحق والباطل.. معيار الرؤية الوحيد يُختزل فى ثقب إبرة لا يمر منه إلاّ ما يصادف الهوى ويوافق الأغراض مهما كانت صغـيرة أو بـاطلة!!

حين تشيع هذه النزعات فى الحياة العامة، لا يقتصر أثرها المدمر على صاحبها، وإنما تنخر فى المجتمع وقيمه وأدائه وطرحه، فيتوارى الحق والجمال والصواب، ويتقدم الباطل والقبح والضلال!

المشاهد الجارية التى أوحت أو استحضرت هذه الكلمات، مشاهد تنشقُّ لها الصدور.. ساد منطق المصانعات، وأسلوب العشائر، وتقدم النفاق، وتأخر الإخلاص، وفتحت العاجلات أذرعها وأحضانها للخاملين والبلداء، وضنّت على الأكفاء والمجتهدين، فاختلّت البوصلة وتاهت حتى لم يعد بمقدور المخلصين إلاّ أن يمسكوا بجمر النار.

 

صعب على أى إنسان صاحب إحساس أن ينتشل أو يحفظ نفسه من جالبات الأحزان المتزايدة يوماً وراء يوم.. أينما يولى نظره يصادف ما يضنى ويوجع ويوئس ويحبط ويجعل الحياة بطعم الحنظل.. أيام الفتن يُقال من باب النصيحة: «أغلق عليك بابك».. ولكن لو استطاع الإنسان أن يعتزل ويغلق عليه بابه، هل بمستطاعه أن يغلق عقله ويلغى حواسه البصرية والسمعية التى تطلعه من خلال الصحف والمرئيات والمسموعات على «السداح مداح» أو «اللبن سمك تمر هندى» الجارى فى جنبات العالم؟ نعم.. الجو نفسه تسمم بممارسات وأساليب وفساد وجنوحات وضلالات وتمويهات وتمثيليات لم نعهدها حتى فى أشد العهود ظلاماً وإظلاماً! لا يستطيع راغب فى فهم حقيقة ما يجرى إلاّ أن يضرب أخماساً فى أسداس.. فإن انكشف عنه الغطاء أبصر من وراء الحجب الكثيفة ما يعز على كل عاقل أن يكون هذا هو حال العالم!!

Rochen Web Hosting