رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

أمانة المحاماة

قسم : مقالات
الأحد, 26 يوليو 2020 12:11

أستأذنك اليوم فى أن أوجه رسالة إلى زملائى المحامين عن ثقل الأمانة التى يحملونها، والتى يجب عليهم أن يحفظوها ويقوموا بواجباتها فى صدق وإخلاص.. والصدق صدق مع النفس، وصدق أيضاً مع الغير.. وكذلك الإخلاص، فهو الإخلاص للواجب الذى على المحامى أن يكرس نفسه للقيام به، والإخلاص فى العطاء الذى تنتظره العدالة منه، وتعطيه حجمه وقامته فى الحياة والمحاماة على قدر صدقه وإخلاصه واحترامه لنفسه ومهنته ورسالته. لأجل هذا عنيت قوانين المحاماة ومدونات القوانين بعامة، فى مصر وفى غيرها، بأن تسبغ مظلة أمان للمحامى تكفل له القيام بواجبه بلا خوف ولا قلق ولا توجس، ومظلة أخرى تكفل أمان علاقته بموكله، وحفظ ما يتلقاه من أسراره للقيام برسالته، وحمايته من ألاّ يُجْبرَ على إفشاء ما لديه، بل ولحمايته من النفس الأمارة بتقرير عقوبة على هذا الإفشاء لو وقع فيه، وهذه «الدرقة» من الحماية هى التى تتيح للمحامى أن يدرأ عن نفسه أى سعى يستهدف «إجباره» عـلى إفشاء ما ائتُمن عليه!!

هذه العناية الملموسة فى تشريعات الدول، مقننة أيضاً فى المواثيق الدولية لدفع الدول إلى احترامها، فجاء فيما جاء بقرارات الأمم المتحدة 45 / 166 فى ديسمبر 1990، أنه يجب على الدول الأعضاء أن تكفل احترام «سرية» جميع الاتصالات والمشاورات التى تدور بين المحامين وموكليهم فى إطار علاقتهم المهنية. لم تبذل هذه العناية للمحاماة، إلاَّ تقديراً لجسامة الأمانة التى يحملها، فهو لا بد أن يؤهل نفسه بكل ما يلزم للوفاء برسالة المحاماة التى تتطلب امتلاك الموهبة والعلم والخبرة، والجد والإخلاص والتفانى، وتتطلب أن يكون موسوعى العلم والثقافة والمعرفة، فإن «الإقناع» هو قوام رسالته وتصديه للدفاع عن الغير، هذا الإقناع الذى يتغيّا به التأثير فى وجدان سواه، والوصول إلى غاية معقودة بعقل وفهم وضمير غيره، وهذه المقدرة حصاد ما توفره الموهبة ويدلى به العلم وتضافره الثقافة والمعرفة، مجدول ذلك كله فى عبارة مسبوكة وشحنة محسوبة لإقناع المتلقى. فالمحاماة هى نيابة عن الغير فى حمايته والدفاع عنه، قوامها الحجة والبيان والإقناع. والكلمة هى روح وعدة ومهجة وسلاح المحاماة؛ هذه الكلمة ليست محض حروف أو صيغ أو تراكيب، وإنما هى حجة وبيان وبرهان. والفروسية هى أخص ما يتحلى به المحامى ويجب أن تتحلى به كلمته، وهى لا تكون كذلك ما لم تكن التزاماً بقضية ومبدأ، مع استعداد للقبول والكفاح من أجل ترجمة معانيها وتحقيق غايتها. معنى الرسالة فى المحاماة، مستمد من طبيعتها وغايتها ونهجها وأسلوب أدائها، لأنها حماية ومحاماة عن «الغير»، ومكابدة ومجاهدة ومناضلة من أجل «الغير» يتلاشى أمامها ويجب أن يتلاشى إحساس المحامى بذاته، أو انحيازه لذاته أو مصالحها أو رغابها، فيكرس كل علمه وفكره ومعارفه وثقافته وقدراته وأدبه وموهبته لينهض بأمانة وضعها «الغير» فى عنقه.. علاقة المحامى بموكله، علاقة بالغة الخصوصية، شديدة العمق والعراضة، فيها يفضى الموكل إلى وكيله المحامى بخلجات نفسه، وبأدق أسرار حياته، وبأمور ربما ضن بها على أقرب المقربين إليه، وربما احتبسها عن الناس كافة. ولثقل هذه الأمانة، حرصت قوانين المحاماة ومدونات القوانين بعامة، على إسباغ مظلة من الأمان على علاقة المحامى بموكله، وحفظ ما يتلقاه المحامى من أسرار فى إطار هذه الرسالة، وحمايته من ألاَّ يجبر على إفشاء ما لديه، بل وتقرير عقوبة على هذا الإفشاء، يستطيع المحامى أن يستند إليها فى درء أى سعى يستهدف «إجباره» على إفشاء ما ائتمن عليه!!

على أن الكفالة الأوجب، هى التى تنبع من ذات المحامى واحترامه الشخصى لنفسه ولأمانته، وتعبر عن ضميره وإيمانه بأنه بالفعل حامل رسالة يجب أن يرتفع إليها.. وأن يتذكر دائماً أن هذه الرسالة هى التى أفسحت له ضمن غاياتها السامقة فى رعاية الحقوق أن يلم بمكنون أسرار موكله التى باح بها إليه، وأنه من لحظة تلقيها قد قبل بإرادته أن يحمل «أمانة» تلزمه بها تقاليد وأعراف وشرف مهنته، قبل أن تدعوه إليها أو تحميها مدونات القوانين والمواثيق الدولية. يضاعف من ثقل هذه الأمانة، أن القانون قد أناط بالمحامى مطلق «اختيار» خطة الدفاع التى يراها كفيلة بحماية حقوق موكله أو بلوغ الغاية فى دفع الظلم أو الجور عنه. وقد جرى قضاء محكمة النقض المصرية على أن المحامى لا يلتزم بما قد يراه المتهم لنفسه، بل إن خطة الدفاع متروكة لرؤية المحامى وتقديره، بل وله أن يبنى دفاعه على طلب الرأفة إذا رأى أن إنكار المتهم للتهمة لا يجديه نفعاً.. ذلك أن القانون احتراماً لرسالة المحاماة لم يوجب على المحامى أن يسلك فى كل ظرف خطة مرسومة له تقيده، بل ترك له اعتماداً على شرف المحاماة وتقاليدها واطمئناناً إلى نبل أغراضها ترك له أمر الدفاع يتصرف فيه بما يرضى ضميره وعلى حسب ما تهديه إليه خبرته. هذا العبء الثقيل، لا يدركه إلاّ المفطور على حب وفهم واحترام رسالة المحاماة، وعلى استيعاب معنى الأمانة التى عرضها الله عزّ وجلّ على الجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وهذه الأمانة هى عنوان الإيمان وجوهره حتى قال رسول القرآن عليه السلام إنه لا إيمان لمن لا أمانة له، وحَذَّر من كونها يوم القيامة خزى وندامة إلاّ لمن أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها.. وهى أكثر ما تكون أثقل حملاً حينما تتعلق بحياة أو حرية أو مصير إنسان!

لقد نقلت فى كتاب «رسالة المحاماة»، مشهداً لافتاً لأستاذنا الجليل مصطفى مرعى.. فارس المحاماة.. الذى أدرك إدراكاً عميقاً مقتضيات أمانة الدفاع، ترى ذلك واضحاً فى وقوفه إلى جوار الأديبة «مى زيادة» حين أطبق عليها جحود أقارب استغلوا مرضها وعزلتها فى شتاء الأحزان الذى أحاطها برحيل الأب ثم الأم، فسولت لهم أنفسهم أن يحجروا عليها، واستدرجها أحدهم للسفر إلى لبنان، حيث أودعوها بقالة الجنون! مستشفى «العصفورية»، ولم تخرج إلاّ بنجدة إحدى العائلات اللبنانية، لتعود إلى مصر محملة بجراح نفسية غائرة ظلت تطاردها مع دعوى الحجر التى لاحقتها فى مصر!.. يومها وقد انفض السامر الذى كان على الدوام من حولها من كبار الأدباء والمفكرين، وقف إلى جوارها فارس المحاماة مصطفى مرعى.. لا يقيد نفسه بالأداء التقليدى ولا بالحدود الضيقة، وإنما ينطلق إلى الميدان الرحب، ويتفتق ذهـن الفارس الحامل للأمانة المدرك لمقتضياتها، عن حيلة عبقرية لم تتقيد بحدود المحكمة وقاعتها، فأشار على المتحدثين معه باسم الكاتبة الجريحة، بأن تلقى محاضرة بقاعة «إيوارت» التذكارية بالجامعة الأمريكية.. ودون أن تعرف الآنسة «مى» خلفية التدبير الذى غُلف بدعوة وجهت إليها من الجامعة لإلقاء المحاضرة، اختارت الأديبة موضوعاً لها من أعقد وأعوص موضوعات فلسفة «نيتشة»، فبهرت الحاضرين، وانتشر نبؤها على صفحات الصحف مشفوعاً بمؤلفاتها: باحثة البادية وعائشة التيمورية وسوانح فتاة والصحائف وابتسامات ودموع المترجمة عن شارل ومارى لام وأزهار الحلم بالفرنسية، وتصادف أن سمع أحد شيوخ القضاء هذه المحاضرة التى تسامعت بها مصر، فحملت أثرها ودلالتها إلى ساحة العدالة، وجاء فى أسباب قضاء المجلس الحسبى الأعلى برفع الحجر: إنها أعقل من أكبر العقلاء.. هذه القضية كسبها مصطفى مرعى قبل أن يدخل بأوراقه إلى ساحة المحكمة، لأنه أدرك موجبات الأمانة التى يحملها، وعرف بثقافته العريضة أن السهـم الذى يدق به نعش هذا «الحجر» أن يعيد صورة الأديبة المفكرة «مى زيادة» إلى أذهان الناس، وقد كان!..

Rochen Web Hosting