رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

مرآة الحياة!

قسم : مقالات
الإثنين, 19 أكتوبر 2020 20:14



تُرى ما الذى كان عليه الكون قبل وجود الروابط القابلة للتعقل بين مكوناته، أعنى ما يقبل التكرار ويذعن للإعادة والانتظام والنظام؟.. هذه الروابط القابلة للتعقل هى خيوط الوجود وجسوره وطرقه، لا يستغنى عنها ولا يمكن أن يستغنى عنها شىء مما نسميه خيراً أو شراً، وهى التى يتجه منها وإليها ويستعملها ويلتقى فيها كل ما يمكن وصفه بأنه خير وشر.. لأنها هى جسور وخيوط وطرق مشتركة للخير والشر معاً.. ولوحدة الكون الذى يمكننا تعقله.. ولأن تكوين الكائن الحى قائم كله على أساس وجود الروابط وقابليتها للتنقل وللتكرار والإذعان للإعادة والانتظام والنظام.. ولا فرق فى ذلك بين الآدمى وبين «الميكروب».. وهذا يكاد ينطبق تماماً على الكائنات غير الحية إذا توسعنا فى معنى الإذعان والاعتياد والوجود والكون والنظام!

 

هذا وتنقية الماضى من الأساطير التى فقدت وظيفتها ولم تعد لازمة ولا نافعة لحياة الآدمى فى واقع حياته عمل واجب.. لكنه ليس سهلاً ولا خالياً من المخاطر. لأن الأساطير تُبنى عليها عادات فكرية وسلوكية وأذواق وقيم ونظم ومهن وحرف، ويُبنى عليها ثقافات وعمران وحضارات وتواريخ وأديان وعلوم وفنون.. كما يُبنى عليها أخلاق ومشارب وفوارق ومميزات وعصبيات وقرابات واختلافات وعداوات.. ويُبنى عليها مدن وقرى وحدود وحُصُون.. وبُنى عليها لغات ورموز وشارات وأعلام. إذ الأساطير أبكار أهدتها وتهديها المخيلة إلى عقل الآدمى وعواطفه وروحه بلا انقطاع. كما يهدى المبيض بويضاته إلى الرحم ثم إلى دنيا الأحياء!

 

لو عرف الإنسان طعم ما يقوله أو ما يفعله أو ما يحس به قبل أن يقوله أو يفعله أو يحس به معرفة تامة لأصبح قديماً ولاستغنى عنه، ولتوقفت مسيرة حياته بتوقف الجدة والجديد فيها.. وهما ما يحرك ويوقظ رغبة الإنسان فيها وجاذبيتها له. وخوفه من هذا الجهل الجزئى الملازم لكل نشاط نمارسه منذ أن نولد إلى أن نموت هو أساس كل توقع وكل أمل وكل خوف وكل حركة حية وكل سكون حى!

ووعى الآدمى هو مرآته للحياة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. هذا الوعى تختلف سعته وحجمه على قدر إدراكه لما هو عليه ومعه فى ماضيه وحاضره وتصوره واستشرافه لما سيحدث أو يتمنى أو يخشى حدوثه.. هذا الوعى لا حدّ لنموه كما لا حدّ لضيقه أو ضموره.. يبدأ فى كل آدمى عن جهالة تامة لأنه يولد لوالدين أو محيطين محكوم كل منهما بنسبة وعيه، وينمو منذ الميلاد ومع أطوار العمر وما يصادف الآدمى فيها، ثم ينتهى بانتهاء حياته على قدر ما بلغه فى رحلته من النمو والاتساع أو الضيق أو الضمور.

يستحيل ابتداءً وانتهاءً أن يكون وعى أى حىّ مطابقاً لواقع الحياة أو لتركيب الكون العظيم.. لأن علم الآدمى، كل آدمى، طارئ غير تام الصحة!.. وهذا العلم الذاتى ليس إلاّ علماً نسبياً راقبه صاحبه وجرّبه ونجح فيه، فصاغ نجاحه بلغته أو برموزه أو بهما معاً ليتبعه غيره من البشر.. وقد يتكرر نجاحه أو لا يتكرر.. فالنجاح فى حياة البشر مبناه المتبع الغالب لا يُستثنى من ذلك إلاّ الحتمى اللازم الدائم.

يحدث ذلك برغم أن كل آدمى غارق مستغرق فى نفسه وذاته ثم أهله، اللهم إلاّ باستثناء قلة نادرة.. ووعى هذه الكثرة مشغول بما عند كل منها من حاله وصحته ومرضه وصغره وشبابه ورجولته وكهولته وشيخوخته.. حفىٌّ بيومه وغده ومأكله ومشربه ويقظته ونومه ومقره وسكنه.. معنىٌّ بما له وما عليه بالعمل والبطالة وبالمجهود والراحة، وملتفت إلى الإنجاب والفقد والوفاق والخصام وإلى الهيئة التى يتخذها عن اعتقاد بأنها تقدم وتمكن له فى عيون الناس!.. وتسهل له الانتقال والاتصال.. وإلى ما يمكنه اغترافه من المتعة والتزين والرياضة واللهو واللعب، وإلى الانشغال بما لديه أو يطمع فى تحقيقه من القوة والنفوذ والثراء، وما يصيبه من الأمل أو اليأس، ومن السرور والبهجة أو الحزن والغم والخوف!

ومن العسير على جمهور الناس، وإن طالت أعمارهم واتسعت مسالك تبصرهم وتعمقهم، من العسير أن يخلّص الحىّ حياته من غمار هذا الإغراق أو الاستغراق الدائم التدفق والاتساع الذى لم يفلت منه أحــد إلاّ نادر النادر!!

لقد تفاقمت فى أيامنا متاعب البشر بتزايد أعدادهم التى فاقت تصور كل من سبقونا، وتفاقمت معها الاختناقات والآلام نتيجة اختلال التوازن الأوّلى بين المواليد والوفيات، وتفجّرت صراعات وصلت إلى حد القوت والغذاء، واتسعت الأخطار والأوضار إلى حد تعريض البشرية للخطر والهلاك!.. ولم تعد للآدمى وسط هذا الأتون إلاّ بوصلة وعيه الذى قد تضلله سيئات العادات والأفكار والاعتقادات! هذا الوعى هو صفحة رؤية الآدمى لطريقه، عليه أن يستخلصه ويقطره وينميه ليمتعه ببصيرة نافذة وقدرة خالصة على تعمق الأشياء والاهتداء إلى الحق والصواب!

Rochen Web Hosting