رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

الفكر الرقمى

قسم : مقالات
الجمعة, 02 أبريل 2021 22:34

أصبحت الرقمنة جزءا مهما من تفكيرنا القومي؛ لم تنافس العمران بعد ولكنها أصبحت حاضرة، وزاد من حضورها الجائحة التى ضغطت لكى نعوض خسائرها، ونتعامل مع نقاط ضعفها من غياب الجمع بالممارسات الرقمية المختلفة. لم يكن الأمر جديدا تماما، فقد سبقت وزارة التربية والتعليم إلى محاولات الرقمنة الحداثية، وبات الموضوع مثارا من قبل المرحبين الذين رأوا فى ذلك نقلة كيفية لإصلاح التعليم، أما الناقدون فقد وجدوا الموضوع محض تابليت مع غياب كل شيء آخر. الكورونا إلى حد كبير حسمت الموقف، فلم تكن هناك وسيلة أخرى للتعامل مع أيام صعبة لا يعرف أحد متى تنتهى ومتى تعود الأيام إلى سيرتها الطيبة الأولي. وجعلت الحكومة والسلطة التنفيذية من الرقمنة أساسا لتحديث الجهاز الإدارى للدولة خاصة مع قرب موعد الانتقال الحكومى إلى العاصمة الإدارية الجديدة حيث بشرى الوجود فى عصر آخر. البيانات أيضا تبدو مغرية فى ذلك العالم الجديد، فهناك قرابة ٦٠ مليون مصرى على صلة بشكل أو آخر مع الإنترنت، وبات معلوما أن هناك قرابة ٩٨ مليون تليفون محمول، ٧٧٪ منها بها خاصية الآندرويد التى تتيح التواصل والاتصال الاجتماعي، والدخول إلى المواقع المختلفة. وفى معظم المواقع الرقمية المصرية المعروفة فى الصحف وغيرها، فإن ٨٦٪ من الداخلين إليها يأتون من خلال التليفون. آخر إحصائيات بصيرة لاستطلاعات الرأى العام وجدت أن المتوسط العام لاستخدام المصريين وسائل التواصل الاجتماعى هو ثلاث ساعات وثمانى دقائق يوميا. هذه المؤشرات كلها مجرد علامات صغيرة، والمرجح أن هناك ما هو أكثر الذى يدل على انتشار وعمق الرقمنة فى الدولة، كما يدل أيضا على غياب كتلة لا بأس بها من المصريين لا تزال تعيش الأمية الرقمية، والأخطر أنها تقاومها بأشكال متعددة.

 

أكثر أشكال المقاومة للرقمنة تأتى من الجهاز الحكومى للدولة والبيروقراطية العميقة فيه والتى سلمت من ناحية بعصر الكمبيوتر، ولكنها من ناحية أخرى فرضت أن يكون ذلك على طريقتها البيروقراطية تماما. وهكذا بينما تنتشر أجهزة الحاسب الآلى على مكاتب الإدارات المختلفة فإن الخطوة الأولى فى حرمان الجهاز من الرقمنة هى أن يصير نوعا من الآلة الكاتبة المتقدمة فى السرعة، ولكنها لا تقوم بأدوار أخرى مثل الحفظ والتصنيف المركب للبيانات وتجميعها. والمرجح أنه سوف يكون موجودا فى الإدارات المختلفة لافتة تقول من أجل إدارة بلا أوراق، إلا أنه فى الواقع سوف تبقى الأوراق على حالها من أول تقديم الطلب إلى تسلم الوثيقة المطلوبة والتى سوف يتراوح عددها بين ١٠ و ١٦ خطوة تشمل وثيقة جديدة أو التصديق على وثائق جرى اعتمادها من قبل. الفارق بين الآن وما كان موجودا قبل الرقمنة هو أن الانتقال سوف يكون بين نفس العدد من الموظفين، ولكن مع امتلاك كل واحد منهم كمبيوتر، بينما يبقى الأرشيف والملفات على حالهما حيث تتجمع الوثائق الورقية كلها. فى معظم الأحوال فإن العمليات الإدارية تجرى منزوعة الدسم الرقمي، فصورة بطاقة الرقم القومى تظل مطلوبة، ولا تعدم إدارة من وجود طابعة تصوير، ولكن فى أحوال أخرى فإنه على المواطن المصرى أن يخرج من الإدارة والمبنى كله لكى يجرى التصوير. المواطن الذكى هنا عليه أن يكون معه عدد كبير من صوره الشخصية، مع عدد أكبر من صور بطاقة الرقم القومى لكى يعطيها لمن يسأل من الموظفين.

 

مثل هذه الأشكال من الرقمنة لا تنقلنا كثيرا من عصور قديمة إلى عصر أكثر حداثة؛ فى بعض الأحيان فإنها تثير الكثير من الاضطراب والشك فى تلك الآلات الغريبة ومدى فاعليتها دون الأحبار والبصمات والصور التى يجرى لصقها أو تثبيتها. وهنا فإن القضية لم تعد وجود الكمبيوتر أو التابليت أو حتى التليفون المحمول الحديث، وإنما كيف يكون مصاحبا بالفكر الرقمى الذى له طريقة مختلفة فى التعامل مع المكان والزمان والمهمة المراد إنجازها. والفكر الرقمى يبدأ على المستوى الاستراتيجى بإدراك قيمة المكان والزمن فى حياة الانسان والشعوب والأوطان، وأن كليهما يشكلان الفارق بين التخلف والتقدم. ومن الطبيعى أنه عندما يكون هناك ستة ملايين موظف حكومى فإن كلا منهم سوف يبحث عن مقعد ومكتب وكمبيوتر، ومهمة من نوع ما يقوم بها. هنا فإن الوثائق لا يجرى تخزينها مرة واحدة وكفي، أو أن صورة بطاقة الرقم القومى لا يجرى رفعها مرة واحدة فحسب، أو أن صورة الشخص المذكور يتم رفعها هى الأخرى بلا عودة لتصويرها، وأن دخول المعلومات الخاصة به يمكن بمجرد وجود ترجمتها وفق برامج إلى الصب فى مسار المعلومات الوطنى كله. الزمن هنا يمكن اختصاره إلى تلك الفترة التى توضع فيها بطاقة الرقم القومى داخل الجهاز الذى يتعرف ويستدعى كل ما هو معلوم عنه من بيانات ومخالفات وأمراض وحتى حسابات بنكية وروشتات علاجية يؤخذ منها ويرِدُ عليها من معلومات. وما بين المكان والزمان تتجمع المعلومات والبيانات العملاقة التى ترشد القرارات التنموية بين المناطق والجهات وحتى الأذواق أيضا.

 

المواطن المصرى الذى يمتلك تليفونا محمولا حديثا يعرف الآن أنه لن تمر عليه أيام إلا ويستأذنه جهازه فى القيام بعملية للتحديث أو Update التى قد تكون فى البيانات أو البرامج وفى أدب شديد يتساءل عما إذا كان عليه أن يفعل ذلك فورا أو ليلا أو فى أوقات يفضلها المستخدم. ومن واجب الأمانة أن يقرر الكاتب أنه ليس خبيرا رقميا، ولكنه ليس أميا من هذه الناحية، وهناك التجربة الإنسانية مع البيروقراطية المصرية منذ عقود كثيرة. ما نحتاجه ثورة فى الفكر الرقمى تناسب آخر ما عرفه العالم من تطورات فى هذا الشأن، على أن تكون مدعمة تدعيما كبيرا ببنية أساسية تصل بنا إلى أقصى السرعات الممكنة. وإذا كنا قد قمنا بثورات فى الطرق والموانى والمطارات ومجالات الطاقة المختلفة، فلماذا لا يكون ذلك أيضا فى مجالات الخدمة المدنية وإدارة المحليات وساعتها سوف يعيش المواطن فى دولة جديدة حقا.

Rochen Web Hosting