رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

استحضار الجمال وصانعيه

قسم : مقالات
الجمعة, 17 سبتمبر 2021 11:30

 

 

بعد أعوام وأعوام، أو فلنقل بعد عقدين من الزمن، وجدنا أنفسنا نعيش على الهواء بكل ما نملك، فقد دخلنا عالم الأقمار الصناعية والسماوات المفتوحة والشبكة العنكبوتية والعلاقات الهوائية، ومعها فقدنا الخصوصية والكثير من المشاعر التى كانت تمنحنا إياها، وضاعت منا فكرة الأبواب المغلقة، والهمس بالكلمات بليغة المعنى، واختلاس الثوانى والنظرات واللمسات، وتبادل الأوراق الصغيرة التى لا تحمل أكثر من كلمات معدودة إلا أنها كانت مشبعة وممتعة، وتحولت علاقاتنا لرسائل إلكترونية بأحرف بلا هوية ولا معنى ولا جنسية، وصور يراها العالم كله بعد أن كنا نخفيها وسط أوراق الكتب التى ضاعت هى أيضاً وفقدت مكانتها أمام كل ما يوصف بأنه إلكترونى، فقد دخلت حياتنا الصحف والمجلات والدوريات والمعاجم والروايات والمواقع والدراسات وبنوك المعرفة (كلها إلكترونية)، وضاعت منا الكثير من المتع، وفقد الكثيرون مهناً اختفت من عالمنا بعد أن صنعت أجيالاً من المبدعين.

ووسط تلك الضوضاء الكونية والأسلاك المدفونة تحت سطح البحار والعابرة للمحيطات ما زلنا نحتفظ بشىء من جمال المشاعر، فقد اعتدنا أن صناع الحب وصناع الحياة ومثلهم صناع الجمال والنجاح هم الذين يقومون باستحضار واسترجاع أيامنا الحلوة التى انقضت، ويسجلون ملامح من غادرونا داخل ذاكرتنا وقلوبنا، ويرددون دائماً أغنيات قصص الحب الخالدة التى صنعت وشكلت وجداننا، ويعيدون إلينا نشوة أول لمسة ليد الحبيب، والسعادة التى تنتابنا مع كل نداء له، فعندما ننطق حروف اسمه أو نرسمها على ورقة صغيرة أو حتى على رمال الشاطئ فى لحظات الراحة والتأمل ندخل دائرة خاصة جداً صغيرة تتسع وتتسع كلما ازدادت دقائق استحضاره وطال الحديث والونس والاستمتاع لتسجل صورة تجمعنا به فى إطار ذهبى ملكى يبحث له عن مكان وسط روائع الفن العالمى وشخصياته الخالدة، وكأنها اعتراف موثق بأننا أحببنا وذبنا وتوحدنا معاً.

وعندما تتقلب أوراق الحياة وتتبعثر وتختفى ثم تعود من جديد لتتجمع وتتسلسل بكل دقة ووضوح فإن ما يحدث هو استحضار للجمال وصانعيه، وما الجمال الذى نفتقده ونعيش على ذكراه إلا لقطات أعدها وأخرجها وأنتجها هؤلاء، وقبل كل ذلك كتبها وحبك قصتها وتفاصيلها ومراحلها وحدد زمنها واستمرارها أو توقفها القدر والنصيب والرزق.

فهل يمكن أن يجود القدر برائحة أنفاس أمى وعطرها وكلماتها وندائها الخاص لى وحدى؟ وهل ستسمح الأحلام بإعادة فرحة انتظار العيد وثيابه الجديدة ولمعة العيون ودقات القلب الصغير، وانتظار ساعى البريد أياماً وأياماً ليحمل معه رسائل الحب وأوراق النجاح وموعد تسلُّم العمل والفوز فى المسابقة وضرورة الاستعداد للسفر واستكمال المؤهلات وشهادة الميلاد والصور الشخصية؟ وهل يمكن استحضار تلك الفرحة المعربدة التى تسيطر على جميع الحواس عندما نفاجأ عند إدارة مؤشر المذياع بالكلمات الخاصة جداً التى أطلقناها على قصتنا معاً وأصبحنا نحمل اسمها وسط الجميع؟ وهل سينجح صانعو الجمال فى إعادة حمرة الخجل ورونقه وجماله لوجه العذارى، والوقار والدلال لخطواتهن واللمحات الأنثوية الرقيقة لثيابهن؟ وهل سيستبدلون لون ثيابهم الأسود كما لو كانوا من عبدة الشيطان بتلك الألوان الزاهية الناعمة الناعسة كألوان الورد والربيع الدافئة، المتعة التى قد تعيد الحياة من جديد لتلك الوجوه الشمعية التى ضاعت ملامحها مع ما فقدنا؟ يبدو أنه لم يبق لنا الآن إلا أن نحاول استحضار الجمال وصانعيه علَّنا ننجح ونعود ويعود كل ما سبق.

 

Rochen Web Hosting