رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

مدينتى أريدها ساحرة وليست ذكية

قسم : مقالات
الأحد, 26 سبتمبر 2021 20:28

 

 

عشت حياتى يطربنى هديل اليمام وتغريد العندليب وزقزقة العصافير، وأنتظر أياً منها كل صباح ليوقظنى بهمساته، وكنت أستغرق فى الأحلام فأترجم صوت أى منها بأنه نداء باسمى لأبدأ يومى وأشاهد شروق الشمس وأستنشق رائحة الصباح والمطر والأرض المرتوية بقطرات الندى، فأشعر أننى وسط السحاب أتوسد زهور الياسمين ويلفنى عطرها الناعم، وأستمتع بالماء العذب من الصنبور وأضعه فى كوبى الذى أعشق شفافيته ونقاء الماء داخله وملمسه الناعم بين أصابعى. فى تلك المدينة الساحرة عشت واستمتعت بكل مظاهر جمال الطبيعة المتواضع الفاتن فى نفس الوقت، وكل أنواع الإبداع وأصحابه، فسمعت كلمات أحمد رامى بصوت أم كلثوم، وموسيقى القصبجى وعبدالوهاب، وكمنجة أحمد الحفناوى وناى محمود عفت وقانون عبدالفتاح منسى، وقرأت ديوان إبراهيم ناجى واعترافاته بالعشق والجنون والهيام فى محبوبته، التى لم تتكرر حتى الآن، وتعلمت الوصف ورسم الشخصيات بالكلمات من نجيب محفوظ ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس ورواياتهم وبطلاتها، وشاهدت إبداع الأجداد وعماراتهم وهندستهم ورسوماتهم وألوانها المبهرة وكتاباتهم وقصص الحصاد والمحاصيل وطقوس الزواج والميلاد وتنصيب الملوك على جدران الأهرامات ومعبدى الكرنك وأبوسمبل، وسمعت أغانى الفلاحين للذهب الأبيض (القطن المصرى) الذى تخاطفته المصانع العالمية، وقرأت تاريخ الاقتصاد المصرى وطلعت حرب وبنك مصر والبورصة المصرية ومدينة النسيج (المحلة الكبرى)، التى عرف إنتاجها أشهر محلات العالم الغربى والعربى، ومجمع الألومنيوم ومصنع الحديد والصلب، وغيرها وغيرها دون ذكاء اصطناعى ودون أن ندخل فى تلك الدوامة الحديثة المرعبة التى يقولون عنها المدن الذكية، فالحب والإبداع والتميز والتفوق والإنتاج والتقاليد الراقية لا تخضع لذكاء اصطناعى ولا تترجم بأرقام أو رموز محفورة على أزرار ملونة. ولأننى عشت هذا الجمال بكل بساطة، حتى وإن كانت مغلفة ببعض المعاناة، فقد أزعجنى وأدهشنى، بلا أى إعجاب، أن أستمع لعلماء القرن الواحد والعشرين وهم يناقشون حول المائدة المستديرة فكرة (المدن الذكية) ويقولون: (إنه وفقاً لتعريف الاتحاد الدولى للاتصالات فقد عرفت تلك المدن بأنها مبتكرة، تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة، وتلبى فى الوقت ذاته احتياجات الأجيال الحالية والقادمة فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية). وعندما قرأ أحدهم نتائج دراسة ماكينزى العالمى الذى يؤكد أن أكثر من ٦٠٠ مدينة فى العالم تحمل هذا اللقب، وأنه بحلول عام ٢٠٢٥ ستكون مولدة لنحو ٦٠٪ من النمو الاقتصادى الدولى، حيث تخضع لعدة مؤشرات للتطور يصل عددها إلى ١٦٢ مؤشراً، وأهمها innovation cities index، الذى بدأ منذ عام ٢٠٠٧ بنشر تقارير بترتيب المدن اعتماداً على تصنيف تطورها من حيث عدة نواحٍ، وقد اعترفت جميع الجهات بنتائجه استناداً على اعتماديته من قبَل العديد من مراكز الأبحاث والصحف والمجلات العالمية فيما يتعلق بمجال ترتيب المدن فى إطار مفهوم المدن الذكية.

تمنيت لو وجدت آلة الزمن التى يمكن أن تعود بى لأيام السحر والجمال وللمدن والقرى الطبيعية خضراء اللون بلا أصباغ ولا بذور مهجنة أو طعام مجمد ومواقد غاز إلكترونية وأفران تعمل بالأرقام والجذور العشرية والطاقة الذرية، فأنا أحب مدينتى كما هى ولا أريدها أن تدخل دوامة الذكاء الرقمى ولا أن تطبق عليها مؤشرات المراكز البحثية، ويكفينى أنها حبيبتى.

 

Rochen Web Hosting