رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

أنا «محمود الكردوسي».. انت مين؟

قسم : مقالات
الإثنين, 28 فبراير 2022 19:33

هل كان لا بد أن تخطفه «النداهة» إلى شارع الصحافة، يتسكع مختالاً بموهبته على مقاهى «الأزقة الضيقة»، يقطع شرايينه على أسفلت العاصمة ليقضّ مضاجع الشياطين أو تحنو عليه الملائكة؟ هل كان لا بد أن يكتب بين موتين ويحيا بين جملتين ويغنى مجده وهو «مذبوح من الألم».. ويتجرع مرارة السخط والتمرد حتى يستكين مزهواً بموهبته بين قوسين: «أنا محمود الكردوسى.. انت مين؟».

 

كان لا بد أن يعشق ليكتب شعراً، أن يُشعل النار فى قلبه لتولد «ذائقة الموت»، أن يُخدع ألف مرة ليظل بريئاً نقياً: «إنه الموهبة البكر».. كان لا بد أن ينتحر ليتجدد دمه.. أن يُلقى «كبده» على قارعة الطريق ليكتشف البشر.. ويسطر بقلمه نعيه: «لا تقسُ على نفسك إذن.. أنت تحب موتك، حتى إنك ستموت وأنت فى الطريق إلى القبر، أما الذين يحبونك بحق.. (وفى الحقيقة يكرهون طيبتك)، الذين كانوا يصرخون فى وجهك عندما تخطئ فى (فهم النساء).. وتمنحهن بركاتك دون أن تضاجعهن، هؤلاء أخذوا كفايتهم منك: كتبك التى لم تقرأها.. صورك التى لا تشبهك.. لمعان عينيك وأنت تضحك.. جمالك الداخلى.. بصيرتك.. لم يتركوا حتى تراباً تنمو فيه!».. نعم كتب «الكردوسى» نعيه وتركه بين يدى: «الطيبون هكذا».

 

لم يكن طامحاً لمنصب ولا لمال.. كان يسدد فاتورة نجاحه بموت تلو الآخر: فى بلدته البعيدة فى صعيد مصر قبر أمه ومنزل أخته «شفيقة» التى ضل الطريق إليها فجاءت لتسكننا معه.. وفى سجل المواليد له «بيسان ويارا».. وفى خانة المناصب «رئيس مجلس إدارة وعضو مجلس الشيوخ».. وفى القلب غصة وصور متداخلة لعشيقات عبرن بخياله وأجهدن قلبه وأطعمنه وهماً وخداعاً ليسرقن ما اكتسبه من رحلة الكد والشقاء.. لكنه لم يعش ليصدق أكاذيبهن، كان يعيش دائماً ما بين «حب ضائع وموت مؤجل».

 

(أنا الذى رأى كل سحرة العاصمة لحماً ودماً).. ألم تنفخ فى عصاك شجناً خاصاً لتخلع الأساطير ثيابها وتكشف عن صمتك الكئيب وتفك «طلاسم كلماتك»، وتفض بكارة الخرافات الساكنة فى قلب التاريخ والصعيد، وتتراقص جنيات الشعر من حولك لتمنحك «سيناريو صاخباً» وسخرية لاذعة وموهبة نادرة لتسطر «ذائقة الموت» بحبر القلب: «اليوم أتممت كلماتك».

 

ذهبت إلى المسجد ربما أجدك تتمرد وتقف منتصراً على موتك الأخير، وترسم بدهشة ولهفة وجعنا ودموعنا.. نحن أخيراً معاً جميعاً، حولك.. تجمعنا على حبك وكأنما ننظر إلى وجوهنا فى كفك: (تلك الأيام التى تآكل فيها شبابنا، ضحكاتنا البريئة، وأحلامنا المتواضعة، ومشكلاتنا التافهة.. كم كنا أبرياء كمناغاة طفل، كأول قصيدة، وأول إهداء على قصيدة ركيكة و«لقمة هنية».. نعم عشناها إلى حد التخمة وحاربنا عن الوطن حتى حافة الموت.. وهزمنا الموت عشقاً لآخر نفس).

 

كنت أعانقك فى وجوه الأصدقاء- شركاء الدرب.. أرى تجربتنا محفورة على جبينهم.. أرى الحلم يتجسد مثل مارد ينحنى ليضع زهوراً ندية على نعشك.. وأكاد أتوهم أن المعجزة قد تتجدد وتنهض ثانياً.. لكنك اخترت موتك قبل أن يميتك قسوة ووحدة وخوفاً.

 

اذهب إليها يا «محمود»، أخبرها أن كل من أحببتهم -فى أزمنة مختلفة- جمعتهم لحظة وداع.. قل لها يا «أمى.. يا سيدة الكون» لم تكن رحلتى سراباً ولا أثرى دخاناً: «أنا الملهم» وثقت تاريخ الوطن وحذفت من ذاكرتى كل ما عداه، «لم أكن نبياً» لكنى ورثت عن الأنبياء لعنات البشر لهم.. لم أكن «شاعراً تماماً» التهمت مطابع المحترفين نصف موهبتى وكل عمرى.. لم أنحنِ يوماً لم أبِع مبادئى فى أسواق النخاسة لم أعقد صفقات مع كاهن أو خائن أو عميل.. كنت أراود الكلمة عن نفسها وأراوغ المؤامرة كى لا أسقط.. وها أنا أصعد أخيراً (الطيبون هكذا): غرباء كرقعة حرير فى رداء صوفى مهووس.. لا يتذكرون أين خبأوا لحظاتهم الجميلة.. ولا يكترثون، إلا بنداء القديسة تريزا: «هلمى أيتها الحياة فغادرينى.. إنى أريد أن أفقدك لكى أكسبك».. ثم يموتون فى صمت.

Rochen Web Hosting