رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

الفرعون المحظوظ الذى كنت أغار منه!

قسم : مقالات
السبت, 05 مارس 2022 20:43

أقمت لسنوات، فى بداية حياتى العملية، بمبنى بسيط، على بُعد خطوات من هرم الملك خوفو، وتحديدًا بالجبّانة الغربية للهرم، والتى دُفن بها كبار موظفى الدولة وكبار الكهنة وأسرهم خلال عصر الملك خوفو والملوك الذين حكموا من بعده، سواء من أبنائه أو أحفاده، وكنت فى ذلك الوقت أشغل منصب كبير مفتشى آثار الهرم، أتقاضى راتبًا شهريًا بسيطًا، مقابل العمل طوال اليوم منذ شروق الشمس حتى مغيبها فى تسيير الشؤون الإدارية والأثرية للمنطقة الأثرية، إلى جانب القيام بأعمال الحفائر حول الأهرامات ومعابدها أو أمام تمثال «أبوالهول»، وكذلك استقبال كبار ضيوف المنطقة الأثرية من ملوك ورؤساء دول وأمراء وكبار الشخصيات والقيام باصطحابهم فى جولة سياحية بالمنطقة. وفى المساء أجلس مع ضيوفى من الأصدقاء بشرفة الاستراحة نحتسى أكواب الشاى والقهوة ونحن نتحدث فى كل شىء، وأمامنا هرم الملك خوفو يقف شامخًا، وهو يضرب بقاعدته الراسخة فى أعماق هضبة الجيزة، ويداعب بقمته الرشيقة نجوم السماء.

 

ومن ضمن الحوادث الطريفة التى عشتها، وهى كثيرة تحتاج مجلدات لسردها، أنه بعد انتهاء زيارة للملكة صوفيا، ملكة إسبانيا، العاشقة لمصر وكل ما هو مصرى، جاءنى رئيس الطاقم المُكلَّف بحراستها، ليسألنى: «دكتور زاهى.. أراك دائمًا تستقبل الملوك والملكات وكبار الشخصيات وأنت ثابت، تستقبلهم بثقة واعتزاز وتُحدثهم وتشرح لهم، وفى نهاية كل زيارة تمزح معهم وتضحك، ويغادرون وهم فى منتهى السعادة، فما سر كل هذه الثقة؟!»، وكانت إجابتى مفاجأة لم يتوقعها، حيث قلت له إن السبب بسيط للغاية، وهو أننى عندما أقابل هؤلاء الملوك والملكات ورؤساء الدول أقابلهم أمام هرم الملك خوفو، وبصفتى حفيد الملك خوفو، الذى عاش قبل خمسة آلاف سنة وبنى أثره الخالد خلود الزمن، من هنا تأتى الطاقة الجبارة بداخلى، والتى تزيل من نفسى كل رهبة من مستوى الضيف الرفيع ومكانته! فكلانا يكون فى حضرة الملك خوفو، وكلانا يشعر بالرهبة من عظمة هذا الأثر الفريد، وهو الهرم الأكبر!

وبمناسبة ذكر الملكة صوفيا وعشقها لمصر، فلعل كثيرين لا يعرفون أن الملكة عاشت طفولتها مع العائلة الملكية فى الإسكندرية عندما كانت العائلة منفية من اليونان خلال الحرب العالمية الثانية، وقد تعلمت الملكة صوفيا فى إحدى مدارس الإسكندرية، وبعد عودتها درست الطب ودرست علم الآثار، ولذلك فلمصر وآثارها مكانة خاصة فى قلب الملكة صوفيا، التى التقيتها كثيرًا خلال زياراتها لمصر وأيضًا فى إسبانيا بعد دعوتها لى لإلقاء محاضرة بالقصر الملكى.

إن حياتى بجوار هرم الملك خوفو ودراساتى فى الآثار المصرية القديمة واكتشافاتى هى التى شكّلت شخصيتى وحددت مستقبلى، وقد عشت حياتى كلها على أمل واحد، وهو أن أقابل جدى، الملك خوفو العظيم، وجهًا لوجه لكى أسأله ويجيب! وبمرور السنوات كانت قائمة الأسئلة تطول وتطول حتى باتت عندى آلاف الأسئلة، التى تحتاج شهورًا.

بل سنين عديدة من الملك خوفو ليُجيب عنها! ونظرًا لاحترامى الكبير لمكانة جدى الملك العظيم خوفو وكبر سنه، وعدم رغبتى فى إرهاقه، قررت أن أختصر كل الأسئلة فى سؤال واحد عن السر وراء نجاح الفراعنة فى بناء حضارة عظيمة خالدة خلود الزمن؟ نعم، لقد عشت حياتى كلها على هذا الأمل.. أمل لقاء الملك خوفو وطرح السؤال عليه! وعملت جاهدًا على تحقيق هذا اللقاء، سواء كان عبر كشف أثرى ضخم حول المجموعة الهرمية للملك خوفو، أو من خلال دراسة أثرية تحليلية لكل عنصر من عناصر الهرم من معابد وأسوار وأهرامات جانبية وموانئ وأوقاف جنائزية.

وأبوح لكم بسر، لأول مرة أكشف عنه، وهو غيرتى الشديدة، ولسنوات طويلة، من الملك تحتمس الرابع، الفرعون المحظوظ، الذى زاره أبوالهول العظيم فى المنام. والقصة كما نعرفها تقول إنه فى يوم من أيام الصيف، وبينما الأمير تحتمس يمتطى صهوة جواده يصطاد الحيوانات بمنطقة أنف الغزال بالقرب من أهرامات أجداده العظام، خوفو وخفرع ومنكاورع، شعر الأمير بالإرهاق وأراد أن يرتاح هو وجواده، فاختار مكانًا ظليلًا أسفل رأس تمثال «أبوالهول»، المسمى تمثال الإله حور آختى. وبينما الأمير تحتمس مستلقٍ أسفل رأس التمثال، غلبه النعاس.

وبينما الأمير مستغرق فى سُبات عميق رأى حلمًا عجيبًا، حيث جاء إليه أبوالهول فى صورته «حور آختى» ليقول له: «انظر أيها الأمير إلى ما آلت إليه أحوالى! لقد تكالبت على جسدى رمال الصحراء وكادت تصل إلى ذقنى، ولسوف أجعلك ملكًا على مصر ولسوف تقوم أنت بإنقاذ جسدى من رمال الصحراء...»، وما هى سوى سنوات قليلة وتحقق الحلم أو النبوءة إن شئنا، وأصبح الأمير تحتمس ملكًا على مصر ويقوم بتنفيذ أوامر «أبوالهول» ويحرره من الرمال، بل يقوم بترميمه وعمل سور حوله لحمايته من الرمال والرياح العاصفة، وكذلك قام بعمل نصب تذكارى أمام صدر «أبوالهول» عبارة عن لوحة عظيمة من الجرانيت الأحمر منقوشة بمناظر ونصوص بديعة توثق وتخلد قصة الحلم. ولايزال النصب التذكارى موجودًا فى موضعه إلى يومنا هذا، ويُعرف بـ«لوحة الحلم».

أما عن سبب غيرتى الشديدة من الملك تحتمس الرابع فهو واضح بالطبع، وهو كيف لأمير يلهو بجواده حول الأهرامات يصطاد الغزلان أن يحظى بهذا الشرف العظيم، شرف مقابلة «أبوالهول» فى المنام؟ ودون أن يسأله الأمير شيئًا يهبه أبوالهول ملك مصر كلها؟! ما هذا السخاء العظيم مع أمير يلهو حول الأهرامات، بينما أنا أعمل ليل نهار أزيل الرمال من حول الأهرامات وأقوم بترميمها والحفاظ عليها؛ بل خوض المعارك من أجلها ومن أجل بقائها، وهو ما كاد يُفقدنى وظيفتى ومستقبلى! والملك خوفو يضِنّ علىَّ بلقاء، ولو حتى فى المنام، ولن أسأله فيه أن يعطينى مُلك مصر أو يولينى وزارة من الوزارات، فقط أريد إجابة عن سؤال واحد: ما سركم يا فراعنة مصر العظام؟!

عشت سنوات عديدة أعمل وأجتهد على أمل اللقاء حتى بدأت الحجب والأستار تتساقط، وأقصد بها أستار الجهل وعدم المعرفة واقتربت من كشف الحقيقة عن طريق القرب من الفراعنة ومن حياتهم ومعتقداتهم ومنهجهم الذى لم يخفوه يومًا عنّا؛ لكن انشغالنا بضخامة آثارهم وبريق ذهبهم ومجوهراتهم جعلنا نُغفل الحكمة من وراء هذه الحضارة العظيمة.

وحدثت المعجزة فى ذلك اليوم، الذى لن أنساه، وأنا جالس أراقب رئيس العمال ومعه الأثريون يقومون بكل هدوء وسكون بإزالة الرمال عن تمثالى عامل بسيط وزوجته دُفنا قبل أكثر من أربعة آلاف عام بمقبرة بسيطة إلى جوار الأهرامات بجبّانة بُناة الأهرامات، حيث سرحت بفكرى للحظات وأنا أنظر إلى هرم الملك خوفو بضخامته وشموخه وإلى مقبرة العامل البسيط وزوجته حتى سمعت جدى الملك خوفو يهمس لى فى أذنى: «لا تعجب يا زاهى! فالسر الذى تبحث عنه طيلة هذه السنوات هو ببساطة الإيمان! نعم الإيمان؛ فنحن الفراعنة، ملوكًا وشعبًا.

عشنا نؤمن بأن الإنسان مهما طال به الزمن فى الحياة فلن يعيش سوى سنوات قليلة من عمر الزمان! فخلوده لن يتحقق بعدد السنين التى يحياها ولكن بما يتركه على الأرض بعد رحيله عن الحياة الدنيا من عمل يُخلَّد به! عشنا حياتنا يا حفيدنا المُقرَّب إلى قلوبنا نعمل بجد وإخلاص لنُخلد أسماءنا فى التاريخ ونترك لكم خبرات تبنون عليها حضارتكم، لكنكم للأسف صنفتموها مجرد آثار تُوضع فى المخازن أو تُعرض بالمتاحف لتجنوا منها بعض المال من الزائرين! ولَيْتَكم وعَيْتم الحكمة التى عشنا بها، وهى أن الإنسان يبقى حيًا بعد موته بما يتركه من عمل فى حياته يُذكر به وينتفع به!». سرَت القشعريرة فى بدنى وأنا أحس بأن كل أثر قد أصبح له الآن معنى وتفسير منطقى بعيدًا عن زيف ما درسناه عن حضارتنا العظيمة على يد الأجانب.

أخيرًا تحدث إلىَّ الملك خوفو وأجابنى عن السؤال المُحيِّر وكشف لى عن سر عظمة الفراعنة، ومنذ ذلك اليوم توقفت غيرتى من الملك تحتمس الرابع، بعدما شعرت بأننى أكثر حظًا منه، فإذا كان أبوالهول تحدث إليه وهو نائم بعد يوم مُضنٍ فى الصيد واللهو، فلقد تحدث إلىَّ جدى الملك خوفو العظيم، بعد يوم عمل شاق فى الحفائر والاكتشافات.

 

Rochen Web Hosting